RAMADAN

Wednesday, November 2, 2022

من كتاب إرشاد الساري شرح صحيح البخاري للقسطلاني رحمه الله 3

 

من (باب الخشوع في الصلاة).

الصلاة صلة العبد بربه، فمن تحقّق بالصلة في الصلاة لمعت له طوالع التجلي، فيخشع. وقد شهد القرآن بفلاح مُصلِّ خاشع قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1، 2]. أي: خائفون من الله، متذللون له، يلزمون أبصارهم مساجدهم.

وعلامة ذلك أن لا يلتفت المصلي يمينًا ولا شمالاً. ولا يجاوز بصره موضع سجوده.

صلّى بعضهم في جامع البصرة فسقطت ناحية من المسجد، فاجتمع الناس عليها ولم يشعر هو بها.

والفلاح أجمع اسم لسعادة الآخرة، وفقد الخشوع ينفيه، وقد قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]. وظاهر الأمر الوجوب، فالغفلة ضد، فمن غفل في جميع صلاته كيف يكون مقيمًا للصلاة لذكره تعالى، فافهم واعمل، فليقبل العبد على ربه، ويستحضر بين يدي من هو واقف.

كان مكتوبًا في محراب داود عليه الصلاة والسلام، أيها المصلي، من أنت ولمن أنت؟ وبين يدي من أنت، ومن تناجي؟ ومن يسمع كلامك، ومن ينظر إليك؟

وقال الخراز: ليكن إقبالك على الصلاة كإقبالك على الله يوم القيامة، ووقوفك بين يديه وهو مقبل عليك وأنت تناجيه.

 

وروى الشافعي: ما هبت الريح إلا جثا النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، على ركبتيه، قال: "اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابًا، اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا".

وقد روى سنيد، عن يوسف بن محمد بن المنكدر، عن أبيه، عن جابر مرفوعًا: قالت أم سليمان لسليمان: يا بني لا تكثر النوم بالليل، فإن كثرة النوم بالليل تدع الرجل فقيرًا يوم القيامة.

وكان بعض الكبراء يقف على المائدة كل ليلة ويقول: معاشر المريدين لا تأكلوا كثيرًا فتشربوا كثيرًا فترقدوا كثيرًا فتتحسروا عند الموت كثيرًا. وهذا هو الأصل الكبير، وهو تخفيف المعدة عن ثقل الطعام.

وفي دعاء بعض العارفين: اللهم لا تتعب بدني في طلب ما لم تقدره لي

 

يحمل قول أبي بكر النقاش المفسر في تفسيره: حسبت الصلاة في المسجد الحرام، فبلغت صلاة واحدة بالمسجد الحرام خمس وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة. وهذا مع قطع النظر عن التضعيف بالجماعة، فإنها تزيد سبعًا وعشرين درجة، كما مر.

قال البدر بن الصاحب الأثاري: إن كل صلاة بالمسجد الحرام فرادى بمائة صلاة، وكل صلاة فيه جماعة بألفي ألف صلاة وسبعمائة ألف صلاة، والصلوات الخمس فيه بثلاثة عشر ألف ألف وخمسمائة ألف صلاة، وصلاة الرجل منفردًا في وطنه غير المسجدين العظمين كل مائة سنة شمسية بمائة ألف وثمانين ألف صلاة، وكل ألف سنة بالف ألف صلاة وثمانمائة ألف صلاة، فتلخص من هذا أن صلاة واحدة في المسجد الحرام جماعة، يفضل ثوابها على ثواب من صلّى في بلده فرادى، حتى بلغ عمر نوح بنحو الضعف. اهـ.

لكن هل يجتمع التضعيفان أو لا؟ محل بحث. وهل يدخل في التضعيف ما زيد في المسجد النبوي في زمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم؟ أم لا:؟ إن غلبنا اسم الإشارة في قوله: مسجدي هذا انحصر التضعيف فيه ولم يعم ما زيد فيه، لأن التضعيف إنما ورد في مسجده وقد أكده يقوله: هذا. وقد صرح بذلك النووي، بخلاف المسجد الحرام، فإنه يعم الحرم كله كما مر.

واستنبط منه تفضيل مكة على المدينة، لأن الأمكنة تشرف بفضل العبادة فيها على غيرها مما تكون العبادة فيه مرجوحة، وهو قول الجمهور.

وحكي عن مالك، وابن وهب، ومطرف، وابن حبيب، من أصحابه: لكن المشهور عن مالك وأكثر أصحابه تفضيل المدينة. وقد رجع عن هذا القول أكثر المنصفين من المالكية. واستثنى القاضي عياض البقعة التي دفن فيها النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فحكى الاتفاق على أنها أفضل بقاع الأرض. بل قال ابن عقيل الحنبلي: إنها أفضل من العرش

 

واختلف في: شد الرحال إلى غيرها، كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتًا، وإلى المواضع الفاضلة للصلاة فيها، والتبرك بها.

فقال أبو محمد الجويني: يحرم عملاً بظاهر هذا الحديث؛ واختاره القاضي حسين، وقال به القاضي عياض وطائفة. (وأقول عن نفسي صاحب هذه المدونةالأحوط هذا القول)

والصحيح عند إمام الحرمين، وغيره من الشافعية، الجواز، وخصوا النهي بمن نذر الصلاة في غير الثلاثة، وأما قصد غيرها لغير ذلك، كالزيارة فلا يدخل في النهي.

وخص بعضهم النهي فيما حكاه الخطابي بالاعتكاف في غير الثلاثة، لكن قال في الفتح: ولم أر عليه دليلاً.

وقد قالت فاطمة بنت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيه:

ماذا على من شم تربة أحمد ... أن لا يشم مدى الزمان غواليا

صبت عليّ مصائب لو أنها ... صبت على الأيام عدن لياليا

 

واعلم أن المصيبة كير العبد الذي يسبك فيه حاله، فإما أن يخرج ذهبًا أحمر، وإما أن يخرج خبثًا كله، كما قيل:

سبكناه ونحسبه لجينًا ... فأبدى الكير عن خبث الحديد

فإن لم ينفعه هذا الكير في الدنيا، فبين يديه الكير الأعظم، فإذا علم العبد أن إدخاله كير الدنيا ومسبكها خير له من ذلك الكير والمسبك، وأنه لا بد له من أحد الكيرين، فليعلم قدر نعمة الله عليه في الكير العاجل، فالعبد إذا امتحنه الله بمصيبة فصبر عند الصدمة الأولى، فليحمد الله تعالى على أن أهلّه لذلك وثبته عليه.

 

وقد اختلف: هل المصائب مكفرات أو مثيبات؟ فذهب الشيخ عز الدّين بن عبد السلام في طائفة، إلى أنه: إنما يثاب على الصبر عليها، لأن الثواب إنما يكون على فعل العبد، والمصائب لا صنع له فيها، وقد يصيب الكافر مثل ما يصيب المسلم، وذهب آخرون إلى أنه يثاب عليها لآية، ولا ينالون من عدوّ نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح.

وحديث الصحيحين: والذي نفسي بيده ما على الأرض مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله عنه به خطاياه، كما تحط الشجرة اليابسة ورقها.

وفيهما: ما من مصيبة تصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة، إلا كفر الله عز وجل بها خطاياه. فالغم على المستقبل، والحزن على الماضي، والنصب والوصب المرض. وفيه: حلفه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تقوية لإيمان الضعيف، ومسمى مسلم وإن قل ولو مذنبًا، ومسمى أذى وإن قل، وذكر خطاياه ولم يقل: منها.

طفح الكرم حتى ... غفر بمجرد ألم

ولو لم يكن للمبتلى ... في الصبر قدم

 

وقال ابن سراقة في كتابه الإعداد: والحرم في الأرض موضع واحد وهو مكة وما حولها ومسافة ذلك ستة عشر ميلاً في مثلها وذلك بريد واحد وثلث على الترتيب، والسبب في بُعد بعض الحدود وقرب بعضها ما قيل إن الله تعالى لما أهبط على آدم بيتًا من ياقوتة أضاء له ما بين المشرق والمغرب فنفرت الجن والشياطين ليقربوا منها فاستعاذ منهم بالله وخاف على نفسه منهم، فبعث الله ملائكة فحفوا بمكة فوقفوا مكان الحرم، وذكر بعض أهل الكشف والمشاهدات أنهم يشاهدون تلك الأنوار واصلة إلى حدود الحرم فحدود الحرم موضع وقوف الملائكة، وقيل: إن الخليل لما وضع الحجر الأسود في الركن أضاء له نور وصل إلى أماكن الحدود فجاءت الشياطين فوقفت عند الأعلام فبناها الخليل عليه السلام حاجزًا. رواه مجاهد عن ابن عباس، وعنه أن جبريل عليه السلام أرى إبراهيم عليه السلام موضع أنصاب الحرم فنصبها، ثم جددها إسماعيل عليه السلام، ثم جددها قصي بن كلاب، ثم جددها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فلما ولي عمر -رضي الله عنه- بعث أربعة من قريش فنصبوا أنصاب الحرم، ثم جددها معاوية -رضي الله عنه-، ثم عبد الملك بن مروان

 

وخراب مكة من الحبشة على يد حبشي أفحج الساقين أزرق العينين أفطس الأنف كبير البطن معه أصحابه ينقضونها حجرًا حجرًا ويتناولونها حتى يرموا بها يعني الكعبة إلى البحر، وخراب المدينة من الجوع، واليمن من الجراد. وذكر الحليمي أن خراب الكعبة يكون في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام، وقال القرطبي: بعد رفع القرآن من الصدور والمصاحف وذلك بعد موت عيسى وهو الصحيح

 

وفي حديث ابن عباس مرفوعًا ما صححه الترمذي: نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضًا من اللبن فسوّدته خطايا بني آدم لكن فيه عطاء بن السائب وهو صدوق إلا أنه اختلط وجرير ممن سمع منه بعد اختلاطه، لكن له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة فيقوى بها. وفي هذا الحديث التخويف لأنه إذا كانت الخطايا تؤثر في الحجر فما ظنك بتأثيرها في القلوب؟ وينبغي أن يتأمل كيف أبقاه الله تعالى على صفة السواد أبدًا مع ما مسه من أيدي الأنبياء والمرسلين المقتضي لتبييضه ليكون ذلك عبرة لذوي الأبصار وواعظًا لكل من وافاه من ذوي الأفكار ليكون ذلك باعثًا على مباينة الزلات، ومجانبة الذنوب الموبقات.

وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي مرفوعًا: أن الحجر والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما ولولا ذلك لأضاء ما بين المشرق والمغرب. رواه أحمد والترمذي، وصححه ابن حبان لكن في إسناده رجاء أبو يحيى وهو ضعيف، وإنما أذهب الله نورهما ليكون إيمان الناس ْبكونهما حقًا إيمانًا بالغيب ولو لم يطمس لكان الإيمان بهما إيمانًا بالمشاهدة، والإيمان الموجب للثواب هو إيمان بالغيب.

 

وروى الفاكهي وغيره عن ابن عباس: صلوا في مصلّى الأخيار واشربوا من شراب الأبرار، قيل: وما مصلّى الأخيار؟ قال: تحت الميزاب. قيل: فما شراب الأبرار؟ قال: زمزم.

لكونها تنفي خبثها وتنصع طيبها ولله در الأشبيلي حيث قال:

لتربة المدينة نفحة ليس كما عهد من الطيب.

بل هو عجب من الأعاجيب.

وقال بعضهم مما ذكره في الفتح وفي طيب ترابها وهوائها دليل شاهد على صحة هذه التسمية لأن من أقام بها يجد من تربتها وحيطانها رائحة طيبة لا يكاد يجدها في غيرها اهـ.