RAMADAN

Saturday, January 27, 2024

من كتاب الزخائر والعبقريات 3 تأليف عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري


يقول مسكين الدارمي - وهو شاعر شجاعٌ من أهل العراق كان في زمن معاوية بن أبي سفيان -:

إنْ أُدْعَ مِسْكيناً فما قَصَرَتْ ... قِدْرِي بيُوتُ الحَيِّ والجُدْرُ

ما مَسَّ رَحْلي العَنْكبوتُ ولا ... جَدَياتُه مِنْ وَضْعِه غُبْرُ

لا آخُذُ الصِّبْيانَ أَلْثَمُهُمْ ... والأمرُ قد يُغْزَى به الأمْرُ

ولَرُبَّ أمْرٍ قد تَرَكتُ وما ... بيني وبين لِقائِه سِتْرُ

لا يَرْهبُ الجيرانُ غَدْرَتَنا ... حتّى يُوارِيَ ذِكْرَنا القبْرُ

لَسْنا كأقوامٍ إذا كَلَحَتْ ... إحْدى السِّنينَ فجارُهُمْ تَمْرُ

مولاهُمُ لَحْمٌ على وَضَمٍ ... تنْتابهُ العِقْبانُ والنَّسْرُ

نارِي ونارُ الجارِ واحدةٌ ... وإليه قَبْلي تُنْزَلُ القِدْرُ

ما ضَرّ جارِيَ إذْ أُجاوِرُهُ ... أنْ لا يكونَ لبَيْتِه سِتْرُ

أَعْشَى إذا ما جارَتي خَرَجتْ ... حتى يُوارِيَ جارَتي الخِدْرُ

ويَصَمُّ عمَّا كانَ بينَهما ... سَمْعي وما بي غيْرَهُ وَقْر

قال حاتم الطائي وهو سيّد الأجواد بالطعام:

أُضاحِكُ ضَيْفي قبلَ إنْزالِ رَحْلِه ... ويُخْصِبُ عندي والمَحَلُّ جَديبُ

وما الخِصْبُ لِلأضيافِ أنْ يَكْثُرَ القِرَى ... ولكنّما وَجْهُ الكريمِ خَصِيبُ

 

قال الفاروق رضي الله عنه: لا تستعن على حاجتك إلا بمن يحبُّ نجاحَها لك

قال رجل لآخر: لو أنا متُّ ما كنتَ تفعل؟ قال: كنت أكفِّنك وأدْفِنك، قال: فاكسُني الساعةَ بما تكفِّنني به، وإذا متُّ فادفِنّي عُرياناً

 

وقال ابن الرومي:

يا مَن إذا التعريضُ صَافَحَ نَفْسَهُ ... أغْنَى العُفَاةَ بهِ عَنِ التَّصريحِ

وقال المتنبّي:

أُقِلّ سلامِي حُبَّ ما خَفَّ عنكُمُ ... وأَسْكُتُ كيما لا يكونَ جوابُ

وفي النَّفسِ حاجاتٌ وفيكَ فَطانةٌ ... سُكوتي بيانٌ عندها وخِطابُ

وقال أبو بكر الخوارزمي:

وإذا طلبتَ إلى كريمٍ حاجةً ... فلِقاؤُهُ يَكْفيكَ والتّسليمُ

فإذا رآكَ مُسَلِّماً عَرَف الذي ... حَمَّلْتَهُ فكأنَّه مَلزومُ

 

طلب الكثير والرضا بالقليل

قال أعرابيٌّ لخالد بن عبد الله من أبيات:

أخالِدُ بينَ الحمدِ والأجرِ حاجَتي ... فأيُّهما تأتي فأنْتَ عمادُ

فقال له خالد: سَلْ ما بدا لك، فقال: مائةُ ألف درهم، قال: أسرفت، قال: ألفُ درهم، قال خالد: ما أدري أمِنْ إسْرافك أتعجب أمْ مِنْ حَطِّك، فقال: إنّي سألتك على قدرك، فلمّا أبيتَ سألتُ على قدري، فقال: إذن واللهِ لا تَغلِبَني على معروفي.

 

 

قال شُرَيْح:

خُذِي العفْوَ مِنِّي تستديمي مودّتي ... ولا تَنطِقي في سَوْرَتي حين أغْضَبُ

فإني رأيتُ الحُبَّ في الصَّدْرِ والأذى ... إذا اجْتَمَعا لم يَلْبَثِ الحبُّ يَذْهَبُ

وقال الحطيئة:

ولَسْتُ أرَى السَّعادةَ جَمْعَ مالٍ … ولكن التَّقِيَّ هو السعيدُ

وتقوى اللهِ خَيْرُ الزَّادِ ذُخْراً … وعندَ اللهِ للأتقَى مَزيدُ

وما لا بُدَّ أن يأتي: قريبٌ … ولكنَّ الذي يَمضي بَعيدُ

وقال أبو نواس:

أخِي ما بالُ قلبِكَ ليسَ يَنْقَى … كأنّكَ لا تَظُنُّ المَوتَ حَقَّا

ألا يا ابْنَ الذين فَنوا وبادُوا … أمَا واللهِ ما ذَهبوا لتَبْقى

وما أحدٌ بزادِك منك أحْظى … وما أحدٌ بزادِك منك أشْقى

ولا لك غيرَ تَقْوى اللهِ زادٌ … إذا جعلَتْ إلى اللهَواتِ تَرْقى

رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً مطأطئاً رأسَه، فقال له: ارْفَعْ رأسَك، فإن الإسلام ليس بمريض. . . ونظر يوماً إلى رجل مُظهرِ النسكِ متماوتٍ فخَفقَه بالدرَّة وقال: لا تُمِتْ علينا دينَنا أماتك الله. . ونظرت السيدة عائشة رضي الله عنها إلى رجلٍ كاد يموتُ تَخافُتاً فقالت: ما لهذا؟ فقالوا: أحدُ القرّاء، فقالت: قد كان عمرُ بن الخطاب سيِّدَ القرّاء، فكان إذا قال أسمعَ، وإذا مشى أسرعَ، وإذا ضربَ أوْجعَ

وقال ابن الرومي من همزيّته البارعة التي يعاتب فيها أبا القاسم الشَّطرنجي

مَرْحباً بالكَفافِ يأتي هَنيئاً … وعلى المُتْعِباتِ ذَيلُ العَفاءِ

ضَلّةً لامْرِئٍ يُشَمِّرُ في الجَمْ … عِ لِعيشٍ مُشمِّرٍ للفَناءِ

دائِباً يَكْنُزُ القَناطيرَ لِلوا … رِثِ والعُمْرُ دائبٌ في انقِضاءِ

حَبّذا كَثْرَةُ القناطيرِ لو كا … نَتْ لِرَبِّ الكُنوزِ كَنْزَ بَقاءِ

إلى أن قال:

حَسْبُ ذِي إرْبةٍ ورأيٍ جَليٍّ … نَظرَتْ عيْنُهُ بلا غُلَواءِ

صِحَّةُ الدّينِ والجَوارِحِ والعِرْ … ضِ وإحْرازُ مُسْكةِ الحَوباءِ

تِلْكَ خيرٌ لعارفِ الخيرِ مِمَّا … يجْمَعُ الناسُ مِنْ فُضولِ الثَّراءِ

ولَها من ذَوي الأصالةِ عُشّا … قٌ وليْسُوا بِتابِعي الأهْواءِ

ليسَ للمُكْثِرِ المُنَغَّصِ عَيْشٌ … إنّما عَيْشُ عائِشٍ بالهَناءِ

إلى أن قال:

ظُلِمَتْ حاجَتي فلاذَتْ بِحَقْوَيْ … كَ فأسْلَمْتَها لكَفِّ القَضاءِ

وقضاءُ الإلهِ أحْوَطُ للنّا … سِ من الأمَّهاتِ والآباءِ

غيرَ أنَّ اليقينَ أضْحَى مَريضاً … مَرَضاً باطِناً شديدَ الخَفاءِ

ما وَجَدْتُ امْرَءاً يُرَى أنَّه يُو … قِنُ إلا وفيهِ شَوْبُ امْتراءِ

لو يَصحُّ اليقينُ ما رَغِبَ الرَّا … غِبُ إلا إلى مَليكِ السَّماءِ

وعسيرٌ بُلوغُ هاتِيكَ جدّاً … تلكَ عُلْيا مراتِبِ الأنبِياءِ

وكان محمد بن علي بن عبد الله بن عباس يقول:

اللهمّ أعنّي على الدُّنيا بالغِنى، وعلى الآخرةِ بالتّقوى

وقال أبو العتاهية:

فوا عجباً كيف يُعْصى المَليكُ أَمْ كيفَ يَجْحَدُه الجاحِدُ

وللهِ في كلِّ تحْرِيكةٍ … وتَسكينةٍ في الوَرَى شاهِدُ

وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ … تدُلُّ على أنّه واحِدُ

ودعا بعضُ الصالحين فقال: أعوذ بالله من وقوعِ المنيّةِ ولمّا أبلغِ الأمنية

يا مَنْ يَرَى مَدَّ البَعُوضِ جَناحَها … في ظُلْمةِ الليلِ البهيمِ الألْيلِ

ويَرى عُروقَ نِياطِها في نَحْرِها … والمُخَّ في تِلْكَ العِظامِ النُّحَّلِ

اغْفِرْ لِعبْدٍ تابَ من فَرَطاتِه … ما كان مِنهُ في الزَّمانِ الأوَّلِ

وقال أبو العتاهية:

يا عَجباً للناسِ لو فكَّروا … وحاسَبُوا أَنفُسَهم أبْصَروا

وعَبَرُوا الدُّنيا إلى غيرِها … فإنّما الدُّنيا لهم مَعْبَرُ

الخيْرُ ممّا ليسَ يَخْفَى هو ال … مَعروفُ والشَّرُّ هو المُنْكَرُ

والمَوْعِدُ المَوتُ وما بعدَه ال … حَشْرُ فذاكَ المَوْعِدُ الأكْبَرُ

لا فَخْرَ إلا فخرُ أهْلِ التُّقَى … غَداً إذا ضَمَّهُمُ المَحْشَرُ

لَيَعْلَمَنَّ الناسُ أنَّ التُّقى … والبِرَّ كانا خيْرَ ما يُذْخَرُ

عجِبْتُ للإنسانِ في فَخْره … وهْو غدا في قَبْرِه يُقْبَرُ

ما بالُ من أوَّلُهُ نُطْفةٌ … وجيفةٌ آخِرُه يَفْخَرُ

أصْبَحَ لا يَمْلِك تقديمَ ما … يَرْجو ولا تأخيرَ ما يَحْذَرُ

وأصْبحَ الأمْرُ إلى غيرِه … في كلِّ ما يُقْضَى وما يُقْدَرُ

إذا كان شُكري نعمةَ اللهِ نِعمةً … عليَّ له في مِثْلِها يَجِبُ الشُكرُ

فكيف بُلوغُ الشّكرِ إلا بفَضْلِه … وإن طالَتِ الأيّامُ واتّصَلَ العُمْرُ

وقال شاعر:

لأشكرَنَّكَ مَعْروفاً هَمَمْتَ به … إنَّ اهْتِمامَكَ بالمَعْروفِ مَعروفُ

ولا أَذُمُّكَ إنْ لَمْ يُمْضِهِ قَدَرٌ … فالشَّيءُ بالقَدَرِ المَحْتومِ مَصْروفُ

‌‌حثهم على الشكر ولو لِمَنْ ليس على دينهم

قال رجلٌ لسعيد بن جبير: المجوسيُّ يُوليني خيراً فأشكرُه، ويسلِّمُ عليَّ فأردُّ عليه؟ فقال سعيد: سألت ابنَ عبّاسٍ عن نحو هذا، فقال لي: لو قال لي فرعونُ خيراً لردَدْتُ عليه. . . وسلّم نصرانيٌّ على الشَّعبيِّ، فقال الشَّعبيُّ: وعليك السلامُ ورحمةُ الله، فقال له رجلٌ: سبحانَ الله، تقول لهذا النصرانيِّ ورحمةُ الله! فقال الشَّعبيُّ: أليس في رحمةِ اللهِ يعيش؟ قال: بلى، قال: فما وجهُ الإنكارِ عليّ عافاك اللهُ ورَحِمَنا وإيّاك برحمته؟ 

Thursday, August 31, 2023

من كتاب الزخائر والعبقريات 2 تأليف عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري

ومن أحسن ما قيل في الإشفاق على الأولاد: قول حِطَّانَ بنِ المُعلَّى - وهو شاعر إسلامي، وأبياته هذه في الحماسة 
 أنْزَلني الدَّهْرُ على حُكْمِهِ … مِنَ شامِخٍ عالٍ إلى خَفْضِ 
وغالَني الدَّهْرُ بِوَفْرِ الغِنى … فليْسَ لي مالٌ سِوَى عِرْضِي 
أبْكانيَ الدَّهْرُ ويا رُبَّما … أضْحَكَني الدَّهْرُ بما يُرْضِي
 لولا بُنَيَّاتٌ كزُغْبِ القَطَا … رُدِدْنَ من بَعْضٍ إلى بعضِ
 لَكانَ لي مُضْطَرَبٌ واسِعٌ … في الأرْضِ ذاتِ الطُّولِ والعَرضِ 
وإنّما أوْلادُنا بَيْنَنا … أَكْبادُنا تَمْشي على الأرْضِ
 لو هَبَّتِ الرِّيحُ على بَعْضِهمْ … لامْتنعت عَيْني من الغُمْضِ
 أنزلني الدهر على حكمه: أنزله من العزةِ إلى الذلَّة يحكم فيه بما شاء، ومن شامخ: من جبل شاهق طويل في السماء، وإلى خفض  إلى مطمئن من الأرض، وهذا تمثيل. وغالني الدهر: أخذه غيلة من حيث لم يدر، وبوفر الغنى: يريد: في كثرة ماله، وقوله: فليس لي مال سوى عرضي يريد: لم يبقِ له الدهر شيئاً إلا أتى عليه سوى عرضه فلم ينتقصه. والعرض: قال ابن الأثير: موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو سلفه أو من يلزمه أمره، وقيل: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه ويحامي عنه أن يُنتقص ويُثلب، وقال أبو العباس ثعلب: إذا ذكر عرض فلان فمعناه أموره التي يرتفع أو يسقط من جهتها بحمد أو بذم، فيجوز أن تكون أموراً يوصف هو بها دون أسلافه ويجوز أن تذكر أسلافه لتلحقه النقيصة بعيبهم 
وقول الشاعر: وأُدْرِكُ مَيسورَ الغِنَى ومعِي عِرضي أي أفعالي الجميلة وقوله: بما يرضي: أي أضحكني أحياناً بما يرضيني. وقوله: كزغب القطا: واحدتها زغباء والذكر أزغب والمصدر الزغب، وهو أوّل ما يبدو من ريش الفرخ، وكذا من شعر الصبي، وقوله: رُدِدن من بعض إلى بعض: تصوير لهيئة تداخل الأفراخ وانضمام بعضهن إلى بعض أول نشأتهن، يصف بناتِه بأنهن ضعاف لا يستطعن القيام بشؤونهن. ومضطرب: أي اضطراب، أي تحرك. وأكبادنا: تمثيل لمعنى الشفقة عليهن، وقد بينها بقوله: لو هبت الريح. . . البيت. . . والغمض بضم الغين: النوم 
وقال شاعر جاهلي يمتدح ابنه لبره به، وهي من أبيات الحماسة  
رأيتُ رِبَاطاً حينَ تَمَّ شَبَابُهُ … وولّى شبابي ليسَ في بِرِّه عَتْبُ
 إذا كان أولادُ الرجالِ حَزَازَةً … فأنتَ الحلالُ الحُلْوُ والبارِدُ العذْبُ 
لنا جانِبٌ منه دَمِيثٌ وجانبٌ … إذا رَامَهُ الأعداءُ مُمْتَنِعٌ 
صَعْبُ وتأخُذُهُ عند المكارم هِزّةٌ … كما اهْتَزَّ تحْتَ البارِحِ الغُصُنُ الرَّطْبُ
 قوله ليسَ في بِرِّه عَتْبُ: يريد ليس في بره لَومٌ ولا سخط، وقوله: إذا كان أولاد الرجال حزازة، فالحزازة: وجع في القلب من غيظٍ ونحوه والجمع حزازات، وتروى: إذا كان أولاد الرجال مرارةً، وهي الأنسبُ بقوله فأنت الحلال الحُلو، يكنى به عن الرجل الذي لا ريبة فيه، على المَثَل بالحُلو الحلال مما يُذاق، يصف طيب أخلاقه، وقوله: دميث: أي سهل ليّن، والبارح: الريح تهب من الشمال في الصيف خاصة 
وقال الفضل بن العباس ابن عتبة بن أبي لهب  
مَهْلاً بَنْي عمِّنا مهْلاً موَالينا ... لا تنْبِشُوا بَيْنَنَا ما كان مَدْفونا 
لا تَطْمَعُوا أَنْ تُهِينُونا ونُكْرِمَكُمْ ... وَأَنْ نَكُفَّ الأذى عنكم وتُؤْذُونا
 مهْلاً بني عمِّنا مِنْ نَحْتِ أَثْلَتِنا ... سِيرُوا رُوَيْداً كما كُنْتُمْ تسيرونا 
اللهُ يعْلَمُ أَنَّا لا نُحِبُّكُمُ ... ولا نَلومُكُمُ إنْ لم تُحبّونا
 كلٌّ له نِيَّةٌ في بُغْضِ صاحبِه ... بنعمةِ اللهِ نَقْليكمْ وتَقْلونا مهلاً
  يريد: رفقاً وسكوناً لا تعجلوا، ويريد ببني عمه: بني أمية، وقد كان في صدورهم أحقاد، وقوله لا تنبشوا: يريد لا تستخرجوا ما كان بيننا من العداوة مدفوناً في الصدور، وقوله: من نحت أثلتنا، فالأثلة: واحد الأثل وهو من العضاه شجر طوال مستقيم الخشب ومنه تصنع الأقداح والجفان ونحتها: قشرها أو نشرها، يريد: مهلاً بني عمنا في إظهار المثالب والمعايب التي تلصقونها بنا، وقوله: كل له نية الخ يريد: إنا وإياكم لعلى طرفي نقيض نحن نبغضكم لاغتصابكم الملك واستيلائكم على أموال المسلمين وأنتم تبغضوننا على قرابتنا من النبي صلوات الله عليه، وقلاه يقليه قلى: أبغضه، وقد حذف نون الرفع من تقلونا ضرورة.
 وقد ورد في علاج العداء الذي يحدث بين الأقارب: وهو علاج مسكن. . . ولكنه لا علاج غيره - قول أكثم بن صيفي حكيم العرب  تباعدوا في الديار تقاربوا في المودة. . 
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: مُرْ ذوي القرابات أن يتزاوروا ولا يتجاوروا 
وقال بعضهم: البنات حسناتٌ. والبنون نعمٌ، والحسناتُ مُثابٌ عليها، والنعم مسؤول عنها. 
وتعرض رجل لهشام بن عبد الملك وادّعى أنه أخوه، فسأله: من أين ذلك؟ قال: من آدم! فأمر بأن يُعطى درهماً، فقال: لا يعطي مثلك درهماً، فقال هشام: لو قسمت ما في بيت المال على القرابة التي ادّعيتها لم ينلك إلا دون ذلك.
 يقول البحتري  
وَأشَقُّ الأفْعالِ أَنْ تَهَبَ الأن ... فُسُ ما أُغْلِقتْ عليهِ الأكُفُّ 
ويقول أبو يعقوب الخُريميّ:
 ودُونَ النَّدى في كُلِّ قَلْبٍ ثنِيَّةٌ ... بهَا مَصْعَدٌ حَزْنٌ ومُنْحدَرٌ سَهْلُ 
 ويقول أبو العتاهية 
 اِطْرَحْ بطَرْفِكَ حيْثُ شِئْ ... تَ فلن تَرَى إلاَّ بخيلا ومَنْ يَظَّنُّ نَثْرَ الحَبِّ جُوداً 
... ويَنْصِبُ تحْتَ ما نَثَرَ الشِّباكا 
 يقول محمود الوراق 
 مَنْ ظَنَّ باللهِ خيراً جاد مُبْتَدِئاً ... والبُخْلُ مِنْ سُوءِ ظَنِّ المَرْءِ باللهِ

قال الحسن والحسين رضوان الله عليهما لعبد الله بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال! قال: بأبي أنتما، إن الله عوّدني أن يفضِّل 
عليَّ، وعوّدته أن أفضِّلَ على عباده، فأخاف أن أقطع العادة، فيقطع عنِّي

مرّ يزيدُ بن المُهلّب بأعرابيّةٍ، في خروجه من سجن عمرَ بنِ عبد العزيز، يريد البصرة، فقَرَتْه عنزاً فقَبِلها، وقال لابنه معاوية: ما معك من النفقة؟ فقال: ثمانمائة دينار، قال فادفعها إليها، فقال له ابنه: إنك تريد الرجالَ، ولا يكون الرجالُ إلا بالمال، وهذه يرضيها اليسير، وهي بعدُ لا تعرفك، فقال له: إن كانت ترضى باليسير فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني، فأنا أعرف نفسي، ادْفَعْها إليها 

جُهْدُ المُقِلِّ إذا أعطاكَ نائلَهُ ... ومُكْثرٌ من غِنًى سِيَّانِ في الجُودِ
فهو كما قال الشاعر 
ولَمْ يكُ أكْثرَ الفِتيانِ مالاً ... ولكن كانَ أرْحَبَهمْ ذِراعا
وأنْفِقْ إذا أنفقتَ إنْ كنْتَ مُوسِراً ... وأَنفِقْ على ما خيَّلَت حينَ تُعْسِرُ
فلا الجودُ يُفْني المالَ والجَدُّ مقْبلٌ ... ولا البخلُ يُبقي المالَ والجَدُّ مُدْبرُ
إنَّ الكَريمَ ليُخْفِي عَنْكَ عُسْرَتَهُ ... حَتَّى تراهُ غَنيِّاً وهوَ مَجْهُودُ
إذا تكرَّمْتَ أَنْ تُعْطي القليلَ ولمْ ... تَقْدِرْ على سَعةٍ لمْ يَظْهرِ الجُودُ
ولِلْبَخيلِ على أمْوالِه عِلَلٌ ... زُرْقُ العُيونِ علَيْها أَوْجُهٌ سُودُ
أَوْرِقْ بخَيْرٍ تُرَجَّى لِلنَّوالِ فَما ... تُرْجى الثِّمارُ إذا لم يُورِقِِ العودُ
ومن أجمل ما قيل في الجود قول حاتم طيء:
أماوِيَّ ما يُغْني الثَّرَاءُ عن الفَتَى ... إذا حَشْرَجَتْ يوماً وضاقَ بها الصَّدْرُ
أماوِيَّ إنْ يُصْبِحْ صَدَايَ بِقَفْرَةٍ ... مِنَ الأرْضِ لا ماءٌ لَدَيَّ ولا خَمْرُ
تَرَيْ أَنَّ ما أَبْقَيْتُ لمْ أَكُ رَبَّهُ ... وأنَّ يَدِي ممَّا بَخِلْتُ بِهِ صِفْرُ
أماوِيَّ إنَّ المَالَ غادٍ ورَائِحٌ ... ويَبْقَى مِنَ المَالِ الأحاديثُ والذِّكرُ
غنِينَا زَماناً بالتَّصَعْلُكِ والغِنى ... وكُلاًّ سَقاناهُ بكأسَيْهمَا الدَّهْرُ
فما زادنا بَأْواً على ذي قَرابةٍ ... غِنانا ولا أزْرَى بأحسابنا الفقْرُ

ألست معي في أن على هذه الأبيات مسحةً من الجمال وأثراً بيّناً من الصدق وأن لها لوطةً من ثمّ بالقلب! أليس حاتمٌ يقول: الحق
 أقول: إنه لا ينبغي لك يا ماوية أن تلوميني على إنفاق مالي في سبيل البرِّ والإلطاف، والتخرق في النوال وقرى الأضياف، أما تعلمين أنّ مال المرء لا يغني عنه شيئاً إذا ما الموت رماه بسهامه وغادر هذه الحياة، أما تعلمين أنَّ المرء متى نُبِذ جسدُه بالعراء وأودع حفرةً موحشةً مقفرةً ليس معه شيء مما كان يحتازه في هذه الدنيا من مال، بدا لك أنّ المال الذي تركته وبخلت به على مستحقيه أصبح مُلكاً لغيري وأصبحت أنا خالي الوِفاضِ بادي الإنفاض لا أملك من هذا المال شَرْوى نقير! أليس الأخلق بي لذلك أن أنفقه وأتسخّى به على أهليه، فأنتفع بعد موتي - إذا أنا فعلت - بالذكر في الناس والحديث الحسن! وأيّةُ قيمةٍ للمال يا ماويّة، ذلك الذي يجيء ويذهب، ويغدو ويروح! أليس الأخلق بالعاقل الثاقب النظر أن يفيد منه ما هو أبقى على الزمن الباقي من الزمن - أن يفيد منه الذكرَ من طريق إنفاقه، والجود به في وجوه استحقاقه! لقد عشنا يا زوجتي حيناً من الدهر أغنياء كما عشنا حيناً فقراء، وكلاً سقاناه الدهر بكأسيهما، 
فما أزرى الدهر بأحسابنا، ولا أصغى إناءَ أعراضنا، ولا أسف بأخلاقنا، كما هو شأنه مع ضعفاء النفوس، وكذلك إذ كنا أغنياء، ما أبطرنا الغنى، وما أطغانا، على ذوي قُربانا، لأنّا نعلم علماً ليس بالظن أن المال عرض زائل، أما الجوهر، أما الذكر، أمّا الشرف، أما الخُلق، فكل أولئك هو الذي عليه المعوَّل، وإنه لذخيرة لا تنفد، وهي حسب العاقل الذي راضَ نفسَه على السكون إلى الحقائق، ولم يخلد إلى أمِّ دَفْرٍ باطلِ الأباطيل

Sunday, July 30, 2023

لعمرك ما شجاني رسم دار أحمد بن علي الخطيب البغدادي


  لعمرك ما شجاني رسم دار    

                                                     وقفت بها ولا ذكر المغاني

ولا أثر الخيام أراق دمعي   

                                                     لأجل تذكري عهد الغواني

ولا ملك الهوى يوماً فؤادي   

                                                 ولا عاصيته فثنى عناني

رأيت فعاله بذوي التصابي   

                                                   وما يلقون من ذل الهوان

    فلم أطمعه في وكم قتيل      

                                                       له في الناس لا يحصى وعان؟

طلبت أخاً صحيح الود محضاً 

                                                           سليم الغيب مأمون اللسان

فلم أعرف من الإخوان إلا     

                                                    نفاقاً في التباعد والتداني

وعالم دهرنا لا خير فيه      

                                                  ترى صوراً تروق بلا معاني

ووصف جميعهم هذا فما إن  

                                                    أقول سوى فلان أو فلان

ولما لم أجد حراً يواتي      

                                                على ما ناب من صرف الزمان

صبرت تكرماً لقراع دهري 

                                            ولم أجزع لما منه دهاني

ولم أك في الشدائد مستكيناً  

                                                     أقول لها ألا كفي كفاني

ولكني صليب العود عود    

                                               ربيط الجأش مجتمع الجنان

أبي النفس لا أختار رزقاً    

                                            يجيء بغير سيفي أو سناني

لعز في لظى باغيه يشوى   

                                                 ألذ من المذلة في الجنان

ومن طلب المعالي وابتغاها  

                                              أدار لها رحا الحرب العوان




Wednesday, March 15, 2023

من كتاب روضة العقلاء لأبو حاتم محمد بن حبان البستي


أخبرنا القطان بالرقة حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن رومي البزاز عَن أبيه قَالَ قلما دخلت على إِسْحَاق بْن أَبِي ربعي الرافقي إلا وهو يتمثل بهذا البيت

 خير من المال والأيام مقبلة ... جيب نقي من الآثام والدنس

 وأنشدني أَبُو بدر أَحْمَد بْن خالد بْن عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد الملك بحران  

يا نفس مَا هو إلا صبر أيام ... كأن لذاتها أضغاث أحلام

يا نفس جوزي عَن الدنيا مبادرة ... وخل عنها فإن العيش قدامي 

 وأنشدني الأبرش 

تعلم فليس المرء يولد عالما ... وليس أخو علم كمن هو جاهل

وإن كبير القوم لا علم عنده ... صغير إذا التفت عَلَيْهِ المحافل

 ولقد أَنْبَأَنَا ابن قحطبة حَدَّثَنَا حسين بْن مُحَمَّد الكوفي قال سمعت محمد ابن بشير الخزاعي يقول

أما لو أعي كل مَا أسمع ... وأحفظ من ذاك مَا أجمع

ولم أستفد غير مَا قد جمعت ... لقيل هو العالم المقنع

ولكن نفس إلى كل شيء ... من العلم تسمعه تنزع

وأحضر بالجهل في مجلسي ... وعلمي في الكتب مستودع

فلا أنا أحفظ مَا قد جمعت ... ولا أنا من جمعه أشبع

ومن يك في علمه هكذا ... يكن دهره القهقري يرجع

إذا لم تكن حافظا واعيا ... فجمعك للكتب لا ينفع

 وأنشدني الكريزي

 أقلل كلامك واستعذ من شره ... إن البلاء ببعضه مقرون

واحفظ لسانك واحتفظ من غيه ... حتى يكون كأنه مسجون

وكل فؤادك باللسان وقل له ... إن الكلام عليكما موزون

فزناه وليك محكما ذا قلة ... إن البلاغة في القليل تكون

 قال أَبُو حاتم الواجب على العاقل أن يلزم الصمت إلى أن يلزمه التكلم فما أكثر من ندم إذا نطق وأقل من يندم إذا سكت وأطول الناس شقاء وأعظمهم بلاء من ابتلى بلسان مطلق وفؤاء مطبق

 ولقد أحسن الذي يقول

إن كان يعجبك السكوت فإنه ... قد كان يعجب قلبك الأخيارا

ولئن ندمت على سكوت مرة ... فلقد ندمت على الكلام مرارا

إن السكوت سلامة ولربما زرع الكلام عداوة وضرارا

وإذا تقرب خاسر من خاسر ... زادا بذاك خسارة وتبارا

 وأنشدني مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه البغدادي

إذا مَا المرء أخطأه ثلاث ... فبعه ولو بكف من رماد

سلامة صدره والصدق منه ... وكتمان السرائر في الفؤاد

 وأنشدني مُحَمَّد بْن المنذر بْن سَعِيد عَن مُحَمَّد بْن خلف التيمي قَالَ أنشدني رجل من خزاعة

إذا لم تخش عاقبة الليالي ... ولم تستحي فاصنع مَا تشاء

فلا والله مَا في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء

يعيش المرء مَا استحيا بخير ... ويبقى العود مَا بقي اللحاء

 أنبأنا الحسن بْن سُفْيَان حَدَّثَنَا نصر بْن علي حَدَّثَنَا نوح بْن قيس عَن أخيه عَن قَتَادَة قَالَ مَا نسيت شيئا قط ثم قَالَ لغلامه ناولني نعلي قَالَ نعلك في رجلك

أنبأنا عَبْد اللَّه بْن محمد بن عمر أنبأنا عل بْن خشرم قَالَ سمعت الفضل بْن موسى يقول كان مالك ينسى فقال لقهرمانه اشتر لي غلاما وسمه باسم خفيف حتى لا أنساه قَالَ فاشتري له غلاما وأدخله عَلَيْهِ فقال اشتريت لك هذا الغلام وسميته باسم خفيف قَالَ مَا سميته قَالَ فرقد قَالَ فنظر إلى الغلام وقال اجلس يا واقد

 قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه الواجب على العاقل أن يلزم المداراة مع من دفع إليه في العشرة من غير مقارفة المداهنة إذ المداراة من المداري صدقة له والمداهنة من المداهن تكون خطيئة عَلَيْهِ والفصل بين المداراة والمداهنة هو أن يجعل المرء وقته في الرياضة لإصلاح الوقت الذي هو له مقيم بلزوم المداراة من غير ثلم في الدين من جهة من الجهات فمتى مَا تخلق المرء بخلق شابه بعض مَا كره اللَّه منه في تخلقه فهذا هو المداهنة لأن عاقبتها تصير إلى قل ويلازم المداراة لأنها تدعو إلى صلاح أحواله ومن لم يدار الناس ملوه (حديث جابر مدارة الناس صدقة ضعفة الألباني وغيره) كما أنشدني علي بْن مُحَمَّد البسامي

دار من الناس ملالاتهم ... من لم يدار الناس ملوه

ومكرم الناس حبيب لهم ... من أكرم الناس أحبوه

 قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه الواجب على العاقل أن يداري الناس مداراة الرجل السابح في الماء الجاري ومن ذهب إلى عشرة الناس من حيث هو كدر على نفسه عيشه ولم تصف له مودته لأن وداد الناس لا يستجلب إلا بمساعدتهم على مَا هم عَلَيْهِ إلا أن يكون مأثما فإذا كانت حالة معصية فلا سمع ولا طاعة والبشر قد ركب فيهم أهواء مختلفة وطبائع متباينة فكما يشق عليك ترك مَا جبلت عَلَيْهِ فكذلك يشق على غيرك مجانبة مثله فليس إلى صفو ودادهم سبيل إلا بمعاشرتهم من حيث هم والإغضاء عَن مخالفتهم في الأوقات

 وَلَقَدْ أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَان حَدَّثَنَا حبان بْن موسى أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ عمر بن الخطاب قَالَ خُذُوا بِحَظِّكُمْ مِنَ الْعُزْلَةِ

 وأما السبب الذي يوجب الاعتزال عَن العالم كافة فهو مَا عرفتهم به من وجود دفن الخير ونشر الشر يدفنون الحسنة ويظهرون السيئة فإن كان المرء عالما يدعوه وإن كان جاهلا عيروه وإن كان فوقهم حسدوه وإن كان دونهم حقروه وإن نطق قالوا مهذار وإن سكت قالوا عيي وإن قدر قالوا مقتر وإن سمح قالوا مبذر فالنادم في العواقب المحطوط عَن المراتب من اغتر بقوم هذا نعتهم وغره ناس هذه صفتهم

ولقد أنبأنا مُحَمَّد بْن المهاجر المعدل أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بكر الأبناوي عَن داود بْن رشيد قال حدثني إِبْرَاهِيم بْن شماس قَالَ قَالَ لي الأكاف حفص بْن حميد صاحب ابن المبارك بمرو يا إِبْرَاهِيم صحبت الناس خمسين سنة فلم أجد أحدا ستر لي عورة ولا وصلني إذا قطعته ولا أمنته إذا غضب فالاشتغال بهؤلاء حمق كثير

 وأنشدني مُحَمَّد بْن المهاجر المعدل لعلي بْن حجر السعدي 

زمانك ذا زمان دخول بيت ... وحفظ للسان وخفض صوت

فقد مرجت عهود الناس إلا ... أقلهم فبادر قبل فوت

فما يبقى على الأيام شيء ... وما خلق امرؤ إلا لموت

 

 

 

 

 

 

 

  

Wednesday, November 2, 2022

من كتاب إرشاد الساري شرح صحيح البخاري للقسطلاني رحمه الله 3

 

من (باب الخشوع في الصلاة).

الصلاة صلة العبد بربه، فمن تحقّق بالصلة في الصلاة لمعت له طوالع التجلي، فيخشع. وقد شهد القرآن بفلاح مُصلِّ خاشع قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1، 2]. أي: خائفون من الله، متذللون له، يلزمون أبصارهم مساجدهم.

وعلامة ذلك أن لا يلتفت المصلي يمينًا ولا شمالاً. ولا يجاوز بصره موضع سجوده.

صلّى بعضهم في جامع البصرة فسقطت ناحية من المسجد، فاجتمع الناس عليها ولم يشعر هو بها.

والفلاح أجمع اسم لسعادة الآخرة، وفقد الخشوع ينفيه، وقد قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]. وظاهر الأمر الوجوب، فالغفلة ضد، فمن غفل في جميع صلاته كيف يكون مقيمًا للصلاة لذكره تعالى، فافهم واعمل، فليقبل العبد على ربه، ويستحضر بين يدي من هو واقف.

كان مكتوبًا في محراب داود عليه الصلاة والسلام، أيها المصلي، من أنت ولمن أنت؟ وبين يدي من أنت، ومن تناجي؟ ومن يسمع كلامك، ومن ينظر إليك؟

وقال الخراز: ليكن إقبالك على الصلاة كإقبالك على الله يوم القيامة، ووقوفك بين يديه وهو مقبل عليك وأنت تناجيه.

 

وروى الشافعي: ما هبت الريح إلا جثا النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، على ركبتيه، قال: "اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابًا، اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا".

وقد روى سنيد، عن يوسف بن محمد بن المنكدر، عن أبيه، عن جابر مرفوعًا: قالت أم سليمان لسليمان: يا بني لا تكثر النوم بالليل، فإن كثرة النوم بالليل تدع الرجل فقيرًا يوم القيامة.

وكان بعض الكبراء يقف على المائدة كل ليلة ويقول: معاشر المريدين لا تأكلوا كثيرًا فتشربوا كثيرًا فترقدوا كثيرًا فتتحسروا عند الموت كثيرًا. وهذا هو الأصل الكبير، وهو تخفيف المعدة عن ثقل الطعام.

وفي دعاء بعض العارفين: اللهم لا تتعب بدني في طلب ما لم تقدره لي

 

يحمل قول أبي بكر النقاش المفسر في تفسيره: حسبت الصلاة في المسجد الحرام، فبلغت صلاة واحدة بالمسجد الحرام خمس وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة. وهذا مع قطع النظر عن التضعيف بالجماعة، فإنها تزيد سبعًا وعشرين درجة، كما مر.

قال البدر بن الصاحب الأثاري: إن كل صلاة بالمسجد الحرام فرادى بمائة صلاة، وكل صلاة فيه جماعة بألفي ألف صلاة وسبعمائة ألف صلاة، والصلوات الخمس فيه بثلاثة عشر ألف ألف وخمسمائة ألف صلاة، وصلاة الرجل منفردًا في وطنه غير المسجدين العظمين كل مائة سنة شمسية بمائة ألف وثمانين ألف صلاة، وكل ألف سنة بالف ألف صلاة وثمانمائة ألف صلاة، فتلخص من هذا أن صلاة واحدة في المسجد الحرام جماعة، يفضل ثوابها على ثواب من صلّى في بلده فرادى، حتى بلغ عمر نوح بنحو الضعف. اهـ.

لكن هل يجتمع التضعيفان أو لا؟ محل بحث. وهل يدخل في التضعيف ما زيد في المسجد النبوي في زمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم؟ أم لا:؟ إن غلبنا اسم الإشارة في قوله: مسجدي هذا انحصر التضعيف فيه ولم يعم ما زيد فيه، لأن التضعيف إنما ورد في مسجده وقد أكده يقوله: هذا. وقد صرح بذلك النووي، بخلاف المسجد الحرام، فإنه يعم الحرم كله كما مر.

واستنبط منه تفضيل مكة على المدينة، لأن الأمكنة تشرف بفضل العبادة فيها على غيرها مما تكون العبادة فيه مرجوحة، وهو قول الجمهور.

وحكي عن مالك، وابن وهب، ومطرف، وابن حبيب، من أصحابه: لكن المشهور عن مالك وأكثر أصحابه تفضيل المدينة. وقد رجع عن هذا القول أكثر المنصفين من المالكية. واستثنى القاضي عياض البقعة التي دفن فيها النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فحكى الاتفاق على أنها أفضل بقاع الأرض. بل قال ابن عقيل الحنبلي: إنها أفضل من العرش

 

واختلف في: شد الرحال إلى غيرها، كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتًا، وإلى المواضع الفاضلة للصلاة فيها، والتبرك بها.

فقال أبو محمد الجويني: يحرم عملاً بظاهر هذا الحديث؛ واختاره القاضي حسين، وقال به القاضي عياض وطائفة. (وأقول عن نفسي صاحب هذه المدونةالأحوط هذا القول)

والصحيح عند إمام الحرمين، وغيره من الشافعية، الجواز، وخصوا النهي بمن نذر الصلاة في غير الثلاثة، وأما قصد غيرها لغير ذلك، كالزيارة فلا يدخل في النهي.

وخص بعضهم النهي فيما حكاه الخطابي بالاعتكاف في غير الثلاثة، لكن قال في الفتح: ولم أر عليه دليلاً.

وقد قالت فاطمة بنت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيه:

ماذا على من شم تربة أحمد ... أن لا يشم مدى الزمان غواليا

صبت عليّ مصائب لو أنها ... صبت على الأيام عدن لياليا

 

واعلم أن المصيبة كير العبد الذي يسبك فيه حاله، فإما أن يخرج ذهبًا أحمر، وإما أن يخرج خبثًا كله، كما قيل:

سبكناه ونحسبه لجينًا ... فأبدى الكير عن خبث الحديد

فإن لم ينفعه هذا الكير في الدنيا، فبين يديه الكير الأعظم، فإذا علم العبد أن إدخاله كير الدنيا ومسبكها خير له من ذلك الكير والمسبك، وأنه لا بد له من أحد الكيرين، فليعلم قدر نعمة الله عليه في الكير العاجل، فالعبد إذا امتحنه الله بمصيبة فصبر عند الصدمة الأولى، فليحمد الله تعالى على أن أهلّه لذلك وثبته عليه.

 

وقد اختلف: هل المصائب مكفرات أو مثيبات؟ فذهب الشيخ عز الدّين بن عبد السلام في طائفة، إلى أنه: إنما يثاب على الصبر عليها، لأن الثواب إنما يكون على فعل العبد، والمصائب لا صنع له فيها، وقد يصيب الكافر مثل ما يصيب المسلم، وذهب آخرون إلى أنه يثاب عليها لآية، ولا ينالون من عدوّ نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح.

وحديث الصحيحين: والذي نفسي بيده ما على الأرض مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله عنه به خطاياه، كما تحط الشجرة اليابسة ورقها.

وفيهما: ما من مصيبة تصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة، إلا كفر الله عز وجل بها خطاياه. فالغم على المستقبل، والحزن على الماضي، والنصب والوصب المرض. وفيه: حلفه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تقوية لإيمان الضعيف، ومسمى مسلم وإن قل ولو مذنبًا، ومسمى أذى وإن قل، وذكر خطاياه ولم يقل: منها.

طفح الكرم حتى ... غفر بمجرد ألم

ولو لم يكن للمبتلى ... في الصبر قدم

 

وقال ابن سراقة في كتابه الإعداد: والحرم في الأرض موضع واحد وهو مكة وما حولها ومسافة ذلك ستة عشر ميلاً في مثلها وذلك بريد واحد وثلث على الترتيب، والسبب في بُعد بعض الحدود وقرب بعضها ما قيل إن الله تعالى لما أهبط على آدم بيتًا من ياقوتة أضاء له ما بين المشرق والمغرب فنفرت الجن والشياطين ليقربوا منها فاستعاذ منهم بالله وخاف على نفسه منهم، فبعث الله ملائكة فحفوا بمكة فوقفوا مكان الحرم، وذكر بعض أهل الكشف والمشاهدات أنهم يشاهدون تلك الأنوار واصلة إلى حدود الحرم فحدود الحرم موضع وقوف الملائكة، وقيل: إن الخليل لما وضع الحجر الأسود في الركن أضاء له نور وصل إلى أماكن الحدود فجاءت الشياطين فوقفت عند الأعلام فبناها الخليل عليه السلام حاجزًا. رواه مجاهد عن ابن عباس، وعنه أن جبريل عليه السلام أرى إبراهيم عليه السلام موضع أنصاب الحرم فنصبها، ثم جددها إسماعيل عليه السلام، ثم جددها قصي بن كلاب، ثم جددها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فلما ولي عمر -رضي الله عنه- بعث أربعة من قريش فنصبوا أنصاب الحرم، ثم جددها معاوية -رضي الله عنه-، ثم عبد الملك بن مروان

 

وخراب مكة من الحبشة على يد حبشي أفحج الساقين أزرق العينين أفطس الأنف كبير البطن معه أصحابه ينقضونها حجرًا حجرًا ويتناولونها حتى يرموا بها يعني الكعبة إلى البحر، وخراب المدينة من الجوع، واليمن من الجراد. وذكر الحليمي أن خراب الكعبة يكون في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام، وقال القرطبي: بعد رفع القرآن من الصدور والمصاحف وذلك بعد موت عيسى وهو الصحيح

 

وفي حديث ابن عباس مرفوعًا ما صححه الترمذي: نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضًا من اللبن فسوّدته خطايا بني آدم لكن فيه عطاء بن السائب وهو صدوق إلا أنه اختلط وجرير ممن سمع منه بعد اختلاطه، لكن له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة فيقوى بها. وفي هذا الحديث التخويف لأنه إذا كانت الخطايا تؤثر في الحجر فما ظنك بتأثيرها في القلوب؟ وينبغي أن يتأمل كيف أبقاه الله تعالى على صفة السواد أبدًا مع ما مسه من أيدي الأنبياء والمرسلين المقتضي لتبييضه ليكون ذلك عبرة لذوي الأبصار وواعظًا لكل من وافاه من ذوي الأفكار ليكون ذلك باعثًا على مباينة الزلات، ومجانبة الذنوب الموبقات.

وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي مرفوعًا: أن الحجر والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما ولولا ذلك لأضاء ما بين المشرق والمغرب. رواه أحمد والترمذي، وصححه ابن حبان لكن في إسناده رجاء أبو يحيى وهو ضعيف، وإنما أذهب الله نورهما ليكون إيمان الناس ْبكونهما حقًا إيمانًا بالغيب ولو لم يطمس لكان الإيمان بهما إيمانًا بالمشاهدة، والإيمان الموجب للثواب هو إيمان بالغيب.

 

وروى الفاكهي وغيره عن ابن عباس: صلوا في مصلّى الأخيار واشربوا من شراب الأبرار، قيل: وما مصلّى الأخيار؟ قال: تحت الميزاب. قيل: فما شراب الأبرار؟ قال: زمزم.

لكونها تنفي خبثها وتنصع طيبها ولله در الأشبيلي حيث قال:

لتربة المدينة نفحة ليس كما عهد من الطيب.

بل هو عجب من الأعاجيب.

وقال بعضهم مما ذكره في الفتح وفي طيب ترابها وهوائها دليل شاهد على صحة هذه التسمية لأن من أقام بها يجد من تربتها وحيطانها رائحة طيبة لا يكاد يجدها في غيرها اهـ.