RAMADAN

Tuesday, April 23, 2024

من كتاب باهر البرهان فى معانى مشكلات القرآن المؤلف: محمود بن أبي الحسن (علي) بن الحسين النيسابورىّ الغزنوي، أبو القاسم، الشهير بـ (بيان الحق)

 


 

فأسلمت وجهي لمن أسلمت … له الأرض تحمل صخرا ثقالا 

 وأسلمت نفسي لمن أسلمت … له المزن تحمل ماء زلالا

 استغفر الله ذنبا لست محصيه … رب العباد إليه الوجه والعمل

 

ولله في كل تحريكة … وتسكينة أبدا شاهد

وفي كل شيء له آية … تدل على أنه واحد

 

وخير الأمر ما استقبلت منه … وليس بأن تتبعه اتباعاً

 

كذلك وما رأيت الناس إلا … إلى [ما] جر [غاويهم] سراعاً

 

 الليل يا واقد [ليل] قر

والريح يا واقد ريح صر

أوقد [ير] نارك من يمر

إن جلبت ضيفا فأنت حر

 

لا تنه عن خلق وتأتي مثله … عار عليك إذا فعلت عظيم

 

وأقم لمن صافيت وجها واحدا … وخليقة إن الكريم قؤوم

 

 

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها … فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى

إذا جاء [نا] [السَّجَانُ] يوماً لحاجةٍ … [عجبنا] وقلنا جاء هذا من الدنيا

 

ولولا دخولها على الماضي بمعنى التوبيخ وعلى المستقبل بمعنى التحريض

 

سأل أعرابي محرمٌ عمر في خلافته، قال: قتلتُ غزالاً؟ فأقبل عمر على

عبد الرحمن بن [عوفٍ]: أيُّ شىءٍ فيها؟ فقال: جفرة وهي الصغيرة من الضأن، كالعناق من المعزى. فانتقل الأعرابي وهو يقول: لم يعلم أمير المؤمنين ما فيها حتى سأل، فدعا [هُ] عمر وعلاه بالدرة: تقتل الصيد وأنت حرمٌ وتغمط [الفتيا] يالكع، ألم تسمع اللهَ يقول؟: (يحكم به ذوا عدلٍ منكم)

 

قال الجاحظ: "من لطيف صنع الله أن فطر المعلمين على وزن عقول الصبيان وإلا لم يكن إلى

تأليف الأمر بينهما سبيلٌ".

وسمع عبد الملك بن مروان كلاماً مختلطاً فقال: "كلامُ مجنونٍ أو مناغيةُ صبيٍّ"

 

أُحَامِقُهُ حتى يقال سجيةً … ولو كان ذا عقلٍ لكنُتُ أُعَاقِلُهْ

 

صَدِّق مقالته واحذر عداوته … والبِسْ عليه بشكٍّ مثل ما لَبِسَا

  

لِدُوا للموت وابنو للخراب … فكلكم يصير إلى التراب

الأيا موت لم أر منك بداً … أبيت فما تحيف ولا تحابي

كأنك قد هجمت على مشيبي … كما هجم المشيب على شبابي

 

وما زُرتُكم عمداً ولكنَّ ذا الهوى … إلى حيث يهوى القلب تهوي به الرِّجل

 

وأكثر هذا الناس إمَّا مُكَذِّبٌ … يقول بما يهوى وإمَّا مُصَدِّق

يقولون أقوالاً ولا يثبتونها … وإن قيل هاتوا حَقِّقُوا لم يحقِّقُوا

 

وما من يد إلَاّ يد الله فوقها … وما ظالمٌ إلَاّ سيبلى بظالم

 


Sunday, April 14, 2024

من كتاب الزخائر والعبقريات 4 تأليف عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري


نهيُهم عن المدح قبل الاختبار

قالوا: لا تَهْرِف قبل أن تَعْرِف أي لا تمدح قبلَ التجربة، وأصل الهَرْفِ: الهذيان قال الأزهري: الهَرْفُ: شبه الهذيان من الإعجابِ بالشَّيء يقال: هو يَهْرَف بفلانٍ نهارَه كُلَّه هَرْفاً وقالوا: لا تَحْمَدَنَّ أمةً عام شرائِها، ولا حُرّةً قبل بِنائِها قبل الدخولِ بها. . . وقال رجلٌ لعمرَ رضي الله عنه: إنّ فلاناً رجلُ صِدْقٍ، فقال: هل سافرْتَ معه، أو ائْتَمَنْته؟ قال: لا، فقال: إذن لا تمدحْه، فلا علمَ لك به، لعلّك رأيتَه يَرْفَعُ رأسَه ويخفضُه في المسجد!

وقالوا: خمسةُ أشياءَ ضائعةٌ: سراجٌ يوقد في شمسٍ، ومطرٌ جَوْدٌ في سَبْخةٍ، وحَسناءُ تزفُّ إلى عِنّينٍ، وطعامٌ استُجيد وقُدِّم إلى سكران، ومعروفٌ صُنِعَ إلى من لا شُكْرَ له

قال الراغب في فصل عنوانه مُداواةُ الغمِّ وإزالةُ الخوف مع شيءٍ من التصرف: خليقٌ بالإنسانِ أن يعلمَ أنّ الدنيا جمَّةُ المصائِبِ رَنْقةُ المشارِبِ تُثمر للبَرِيّةِ أضعافَ البليّة، فيها مع كل لقمةٍ غُصّة، ومع كل جُرْعةٍ شَرْقةٌ، فهي عَدوَّةٌ ومَحْبوبةٌ كما قال أبو نواس:

إذا امْتَحَنَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ تَكَشّفَتْ … لَهُ عن عَدُوٍّ في ثِيَابِ صَديقٍ

وكما رُوي عن الحسن البصري أنه قال: ما مثلُنا مع الدُّنيا إلا كما قال كثيّر:

أَسيِئي بِنَا أوْ أحْسِنِي لا مُلومَةٌ … لَدَيْنا وَلا مَقْلِيَّةٌ إنْ تَقَلَّتِ

فما أحدٌ فيها إلا وهو في كلِّ حالاته غرضٌ لسِهامِها:

تُناضِلُهُ الآفاتُ مِنْ كلِّ جانبٍ … فتُخْطِئُهُ يوماً ويوماً تُصِيبُهُ

وقال بعضُ الحكماء: أسبابُ الحزن فقدُ محبوبٍ أو فوتُ مطلوبٍ، ولا يسلم مِنْهما إنسانٌ، لأن الثّباتَ والدّوامَ معدومان في عالم الكون والفساد فمن أحبَّ أن يعيشَ هو وأهلُه وأحبابُه سالمين فهو غيرُ عاقلٍ، لأنّه يريدُ أن يملكَ ما لا يُملكُ، ويُوجِدَ له ما لا يُوجَدُ، فحقيقٌ بالمرءِ أن لا يُخلي قلبَه من الاعتبارِ بما يرى، من ارْتجاعٍ لودائِعِها من أربابِها، وحلولٍ لنوائبِها بأصْحابها.

ثمَّ من حقّه أن يقلّل من اقتناءِ ما يورثُه الحزنَ، فقد قيل لحكيم: لم لا تغتمُّ؟ فقال: لأنّي لم أقتنِ ما يغمُّني فقدُه، أخذه الشاعرُ فقال:

فمَنْ سَرَّهُ أن لا يَرى ما يسوؤُه … فلا يَتَّخِذْ شَيْئاً يَخاف له فَقْدا

وقيل لحكيم: هل للإنسان أن يعيشَ آمِناًً؟ قال: نعم، إذا احترسَ من الخطيئةِ، وقَنِعَ بحلاله، ولم يحزن لما هو واقعٌ به لا محالة. واعلم أنّ الجزع على ما فات لا يَلُمُّ ما تشعَّث ولا يُبْرمُ ما انْتكَث؛ فأمّا غمُّه على المُستقبل فلا يخلو من ثلاثةِ أوْجهٍ: إمّا في شيءٍ ممتنعٍ كونُه، أو واجبٍ كونُه، أو ممكنٍ، فإن كان على ما هو ممتنعٌ كونُه فليس ذلك من شأنِ العقلاء، وكذلك إذا كان من قبيلِ الواجبِ كونُه، كالموتِ الذي هو حَتْمٌ في رقابِ العباد، وإن كان ممكناً كونُه فإن كان من الممكن الذي لا سبيلَ إلى دفعِه كإمكانِ الموتِ قبل الهرمِ فالحزنُ له جهل، واستجلابُ غَمٍّ، وإن كان من الممكن الذي يصحُّ دفعُه فالوجهُ أن يحتالَ إلى دفعِه بفعلٍ غير مشوبٍ بحزن، فإن دَفَعَه وإلا تلقّاه بصبر، وليتحقّق قولُه عزّ وجلّ: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ}، فمَنْ علم أن ما جرى في حكمِه وسبقَ في علمِه لا سبيلَ إلى أن لا يكونَ، هانت عليه النُّوَبُ، واعلم أن الذي يَغرُّ الناسَ هو حسنُ ظنِّهم باغترار الآفات، واغترارُهم حالةً بعد حالة بصفاء الأوقات، ولو تأمّلوها لتحقّقوا أنّها كما قال علي رضي الله تعالى عنه: ما قال الناسُ لقومٍ طوبى لكم إلا وقد خبّأ الدهرُ لهم يومَ

سوءٍ:

إنَّ الليالِيَ لَمْ تُحسِنْ إلى أحدٍ … إلا أساَءتْ إليهِ بَعْدَ إحسانِ

انتهى كلامُ الراغبِ، ومن أبدعِ ما قيل في الصَّبْرِ والجَزَعِ قولُ ابنِ الرّومي:

أرَى الصبرَ مَحْموداً وعنه مذاهِبٌ … فكيفَ إذا ما لَمْ يَكُنْ عَنْه مَذْهَبُ

هُناك يَحِقُّ الصَّبْرُ والصبرُ وَاجبٌ … وما كان منه كالضَّرورةِ أوْجَبُ

فشَدَّ امْرُؤٌ بالصَّبرِ كَفَّاً فإنّه … له عِصْمةٌ أسبابُها لا تَقَضَّبُ

هُوَ المَهْرَبُ المُنْجِي لِمَنْ أَحْدقَتْ بهِ … مَكارِهُ دهْرٍ ليسَ مِنْهُنَّ مَهْرَبُ

أعُدُّ خِلالاً فيه ليسَ لِعاقِلٍ … من الناسِ - إنْ أُنصِفْنَ - عَنْهُنَّ مَرْغَبُ

لَبُوسُ جَمالٍ، جُنَّةٌ مِنْ شَماتَةٍ … شِفاءُ أسًى يُثْنَى به ويُثَوّبُ

وتعرض رجل لهشام بن عبد الملك وادّعى أنه أخوه، فسأله: من أين ذلك؟ قال: من آدم! فأمر بأن يُعطى درهماً، فقال: لا يعطي مثلك درهماً، فقال هشام: لو قسمت ما في بيت المال على القرابة التي ادّعيتها لم ينلك إلا دون ذلك

وقد عدوا الشجاعة لوناً من الجود فقال مسلم بن الوليد:

يجُودُ بالنَّفسِ إذْ ضَنَّ البخيلُ بها … والجودُ بالنَّفْسِ أقْصَى غايةِ الجودِ

وقال ابن عباس: ثلاثة لا أكافئهم: رجل بدأني بالسلام، ورجل وسّع لي في المجلس، ورجل اغْبرّت قدماه في المشي إليّ إرادةَ التسليم عليّ؟ فأما الرابع فلا يكافئه عني إلا الله عز وجل، قيل: ومن هو؟ قال: رجلٌ نزل به أمرٌ فبات ليلتَه يفكِّر بمن يُنْزِلُه، ثم رآني أهلاً لحاجته فأنزلها بي

وقال الحسن والحسين رضوان الله عليهما لعبد الله بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال! قال: بأبي أنتما، إن الله عوّدني أن يفضِّل عليَّ، وعوّدته أن أفضِّلَ على عباده، فأخاف أن أقطع العادة، فيقطع عنِّي. . .

ومرّ يزيدُ بن المُهلّب بأعرابيّةٍ، في خروجه من سجن عمرَ بنِ عبد العزيز، يريد البصرة، فقَرَتْه عنزاً فقَبِلها، وقال لابنه معاوية: ما معك من النفقة؟ فقال: ثمانمائة دينار، قال فادفعها إليها، فقال له ابنه: إنك تريد الرجالَ، ولا يكون الرجالُ إلا بالمال، وهذه يرضيها اليسير، وهي بعدُ لا تعرفك، فقال له: إن كانت ترضى باليسير فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني، فأنا أعرف نفسي، ادْفَعْها إليها

ومن هنا حثوا على الجود والمروءة والتسخي حتى في حالة العسر والضيق فمن ذلك ما قرأناه منسوباً لبُزُرْ جِمِهْرَ أو ليحيى بن خالد البرمكي أو لامرأة من العرب توصي به ابنها، وهو: إذا أقبلت عليك الدُّنيا فأنفق، فإنَّها لا تفنى، وإذا أدبرت عنك فأنفق فإنَّها لا تبقى. أخذه بعض الشعراء فقال:

وأنْفِقْ إذا أنفقتَ إنْ كنْتَ مُوسِراً … وأَنفِقْ على ما خيَّلَت حينَ تُعْسِرُ

فلا الجودُ يُفْني المالَ والجَدُّ مقْبلٌ … ولا البخلُ يُبقي المالَ والجَدُّ مُدْبرُ

وقال الآخر في معناه:

لا تَبْخَلنَّ بدُنْيا وهي مُقْبِلةٌ … فليس يَنْقُصُها التَّبْذيرُ والسَّرَفُ

فإنْ توَلَّتْ فأحْرَى أنْ تَجُودَ بها … والشُّكْرُ منها إذا مَا أَدْبرَتْ خلَفُ

ولاتنس أن مرادهم بالإنفاق والجود هنا: الإنفاق في سبيل الله والبِرّ لا في سبيل الشيطان والإثم، والجود على ذوي الحقوق ومن هم في حاجة إليك حتّى مع إدبار الدنيا عنك

 

 

وقال حماد عجرد في ذلك من أبيات:

بُثَّ النَّوَالَ ولا تمنَعكَ قِلَّتُهُ … فكلُّ ما سَدَّ فقْراً فَهْوَ مَحْمودُ

يقول فيها:

إنَّ الكَريمَ ليُخْفِي عَنْكَ عُسْرَتَهُ … حَتَّى تراهُ غَنيِّاً وهوَ مَجْهُودُ

إذا تكرَّمْتَ أَنْ تُعْطي القليلَ ولمْ … تَقْدِرْ على سَعةٍ لمْ يَظْهرِ الجُودُ

ولِلْبَخيلِ على أمْوالِه عِلَلٌ … زُرْقُ العُيونِ علَيْها أَوْجُهٌ سُودُ

أَوْرِقْ بخَيْرٍ تُرَجَّى لِلنَّوالِ فَما … تُرْجى الثِّمارُ إذا لم يُورِقِِ العودُ

إن الله جوادٌ لا يبخل، وصدوقٌ لا يكذب، ووفيٌ لا يغدر، وحكيمٌ لا يعجل، وعدلٌ لا يظلم. وقد أمرنا بالجود، ونهانا عن البخل، وأمرنا بالصدق، ونهانا عن الكذب، وأمرنا بالحلم، ونهانا عن العجلة، وأمرنا بالعدل، ونهانا عن الظلم، وأمرنا بالوفاء، ونهانا عن الغدر


Saturday, January 27, 2024

من كتاب الزخائر والعبقريات 3 تأليف عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري


يقول مسكين الدارمي - وهو شاعر شجاعٌ من أهل العراق كان في زمن معاوية بن أبي سفيان -:

إنْ أُدْعَ مِسْكيناً فما قَصَرَتْ ... قِدْرِي بيُوتُ الحَيِّ والجُدْرُ

ما مَسَّ رَحْلي العَنْكبوتُ ولا ... جَدَياتُه مِنْ وَضْعِه غُبْرُ

لا آخُذُ الصِّبْيانَ أَلْثَمُهُمْ ... والأمرُ قد يُغْزَى به الأمْرُ

ولَرُبَّ أمْرٍ قد تَرَكتُ وما ... بيني وبين لِقائِه سِتْرُ

لا يَرْهبُ الجيرانُ غَدْرَتَنا ... حتّى يُوارِيَ ذِكْرَنا القبْرُ

لَسْنا كأقوامٍ إذا كَلَحَتْ ... إحْدى السِّنينَ فجارُهُمْ تَمْرُ

مولاهُمُ لَحْمٌ على وَضَمٍ ... تنْتابهُ العِقْبانُ والنَّسْرُ

نارِي ونارُ الجارِ واحدةٌ ... وإليه قَبْلي تُنْزَلُ القِدْرُ

ما ضَرّ جارِيَ إذْ أُجاوِرُهُ ... أنْ لا يكونَ لبَيْتِه سِتْرُ

أَعْشَى إذا ما جارَتي خَرَجتْ ... حتى يُوارِيَ جارَتي الخِدْرُ

ويَصَمُّ عمَّا كانَ بينَهما ... سَمْعي وما بي غيْرَهُ وَقْر

قال حاتم الطائي وهو سيّد الأجواد بالطعام:

أُضاحِكُ ضَيْفي قبلَ إنْزالِ رَحْلِه ... ويُخْصِبُ عندي والمَحَلُّ جَديبُ

وما الخِصْبُ لِلأضيافِ أنْ يَكْثُرَ القِرَى ... ولكنّما وَجْهُ الكريمِ خَصِيبُ

 

قال الفاروق رضي الله عنه: لا تستعن على حاجتك إلا بمن يحبُّ نجاحَها لك

قال رجل لآخر: لو أنا متُّ ما كنتَ تفعل؟ قال: كنت أكفِّنك وأدْفِنك، قال: فاكسُني الساعةَ بما تكفِّنني به، وإذا متُّ فادفِنّي عُرياناً

 

وقال ابن الرومي:

يا مَن إذا التعريضُ صَافَحَ نَفْسَهُ ... أغْنَى العُفَاةَ بهِ عَنِ التَّصريحِ

وقال المتنبّي:

أُقِلّ سلامِي حُبَّ ما خَفَّ عنكُمُ ... وأَسْكُتُ كيما لا يكونَ جوابُ

وفي النَّفسِ حاجاتٌ وفيكَ فَطانةٌ ... سُكوتي بيانٌ عندها وخِطابُ

وقال أبو بكر الخوارزمي:

وإذا طلبتَ إلى كريمٍ حاجةً ... فلِقاؤُهُ يَكْفيكَ والتّسليمُ

فإذا رآكَ مُسَلِّماً عَرَف الذي ... حَمَّلْتَهُ فكأنَّه مَلزومُ

 

طلب الكثير والرضا بالقليل

قال أعرابيٌّ لخالد بن عبد الله من أبيات:

أخالِدُ بينَ الحمدِ والأجرِ حاجَتي ... فأيُّهما تأتي فأنْتَ عمادُ

فقال له خالد: سَلْ ما بدا لك، فقال: مائةُ ألف درهم، قال: أسرفت، قال: ألفُ درهم، قال خالد: ما أدري أمِنْ إسْرافك أتعجب أمْ مِنْ حَطِّك، فقال: إنّي سألتك على قدرك، فلمّا أبيتَ سألتُ على قدري، فقال: إذن واللهِ لا تَغلِبَني على معروفي.

 

 

قال شُرَيْح:

خُذِي العفْوَ مِنِّي تستديمي مودّتي ... ولا تَنطِقي في سَوْرَتي حين أغْضَبُ

فإني رأيتُ الحُبَّ في الصَّدْرِ والأذى ... إذا اجْتَمَعا لم يَلْبَثِ الحبُّ يَذْهَبُ

وقال الحطيئة:

ولَسْتُ أرَى السَّعادةَ جَمْعَ مالٍ … ولكن التَّقِيَّ هو السعيدُ

وتقوى اللهِ خَيْرُ الزَّادِ ذُخْراً … وعندَ اللهِ للأتقَى مَزيدُ

وما لا بُدَّ أن يأتي: قريبٌ … ولكنَّ الذي يَمضي بَعيدُ

وقال أبو نواس:

أخِي ما بالُ قلبِكَ ليسَ يَنْقَى … كأنّكَ لا تَظُنُّ المَوتَ حَقَّا

ألا يا ابْنَ الذين فَنوا وبادُوا … أمَا واللهِ ما ذَهبوا لتَبْقى

وما أحدٌ بزادِك منك أحْظى … وما أحدٌ بزادِك منك أشْقى

ولا لك غيرَ تَقْوى اللهِ زادٌ … إذا جعلَتْ إلى اللهَواتِ تَرْقى

رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً مطأطئاً رأسَه، فقال له: ارْفَعْ رأسَك، فإن الإسلام ليس بمريض. . . ونظر يوماً إلى رجل مُظهرِ النسكِ متماوتٍ فخَفقَه بالدرَّة وقال: لا تُمِتْ علينا دينَنا أماتك الله. . ونظرت السيدة عائشة رضي الله عنها إلى رجلٍ كاد يموتُ تَخافُتاً فقالت: ما لهذا؟ فقالوا: أحدُ القرّاء، فقالت: قد كان عمرُ بن الخطاب سيِّدَ القرّاء، فكان إذا قال أسمعَ، وإذا مشى أسرعَ، وإذا ضربَ أوْجعَ

وقال ابن الرومي من همزيّته البارعة التي يعاتب فيها أبا القاسم الشَّطرنجي

مَرْحباً بالكَفافِ يأتي هَنيئاً … وعلى المُتْعِباتِ ذَيلُ العَفاءِ

ضَلّةً لامْرِئٍ يُشَمِّرُ في الجَمْ … عِ لِعيشٍ مُشمِّرٍ للفَناءِ

دائِباً يَكْنُزُ القَناطيرَ لِلوا … رِثِ والعُمْرُ دائبٌ في انقِضاءِ

حَبّذا كَثْرَةُ القناطيرِ لو كا … نَتْ لِرَبِّ الكُنوزِ كَنْزَ بَقاءِ

إلى أن قال:

حَسْبُ ذِي إرْبةٍ ورأيٍ جَليٍّ … نَظرَتْ عيْنُهُ بلا غُلَواءِ

صِحَّةُ الدّينِ والجَوارِحِ والعِرْ … ضِ وإحْرازُ مُسْكةِ الحَوباءِ

تِلْكَ خيرٌ لعارفِ الخيرِ مِمَّا … يجْمَعُ الناسُ مِنْ فُضولِ الثَّراءِ

ولَها من ذَوي الأصالةِ عُشّا … قٌ وليْسُوا بِتابِعي الأهْواءِ

ليسَ للمُكْثِرِ المُنَغَّصِ عَيْشٌ … إنّما عَيْشُ عائِشٍ بالهَناءِ

إلى أن قال:

ظُلِمَتْ حاجَتي فلاذَتْ بِحَقْوَيْ … كَ فأسْلَمْتَها لكَفِّ القَضاءِ

وقضاءُ الإلهِ أحْوَطُ للنّا … سِ من الأمَّهاتِ والآباءِ

غيرَ أنَّ اليقينَ أضْحَى مَريضاً … مَرَضاً باطِناً شديدَ الخَفاءِ

ما وَجَدْتُ امْرَءاً يُرَى أنَّه يُو … قِنُ إلا وفيهِ شَوْبُ امْتراءِ

لو يَصحُّ اليقينُ ما رَغِبَ الرَّا … غِبُ إلا إلى مَليكِ السَّماءِ

وعسيرٌ بُلوغُ هاتِيكَ جدّاً … تلكَ عُلْيا مراتِبِ الأنبِياءِ

وكان محمد بن علي بن عبد الله بن عباس يقول:

اللهمّ أعنّي على الدُّنيا بالغِنى، وعلى الآخرةِ بالتّقوى

وقال أبو العتاهية:

فوا عجباً كيف يُعْصى المَليكُ أَمْ كيفَ يَجْحَدُه الجاحِدُ

وللهِ في كلِّ تحْرِيكةٍ … وتَسكينةٍ في الوَرَى شاهِدُ

وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ … تدُلُّ على أنّه واحِدُ

ودعا بعضُ الصالحين فقال: أعوذ بالله من وقوعِ المنيّةِ ولمّا أبلغِ الأمنية

يا مَنْ يَرَى مَدَّ البَعُوضِ جَناحَها … في ظُلْمةِ الليلِ البهيمِ الألْيلِ

ويَرى عُروقَ نِياطِها في نَحْرِها … والمُخَّ في تِلْكَ العِظامِ النُّحَّلِ

اغْفِرْ لِعبْدٍ تابَ من فَرَطاتِه … ما كان مِنهُ في الزَّمانِ الأوَّلِ

وقال أبو العتاهية:

يا عَجباً للناسِ لو فكَّروا … وحاسَبُوا أَنفُسَهم أبْصَروا

وعَبَرُوا الدُّنيا إلى غيرِها … فإنّما الدُّنيا لهم مَعْبَرُ

الخيْرُ ممّا ليسَ يَخْفَى هو ال … مَعروفُ والشَّرُّ هو المُنْكَرُ

والمَوْعِدُ المَوتُ وما بعدَه ال … حَشْرُ فذاكَ المَوْعِدُ الأكْبَرُ

لا فَخْرَ إلا فخرُ أهْلِ التُّقَى … غَداً إذا ضَمَّهُمُ المَحْشَرُ

لَيَعْلَمَنَّ الناسُ أنَّ التُّقى … والبِرَّ كانا خيْرَ ما يُذْخَرُ

عجِبْتُ للإنسانِ في فَخْره … وهْو غدا في قَبْرِه يُقْبَرُ

ما بالُ من أوَّلُهُ نُطْفةٌ … وجيفةٌ آخِرُه يَفْخَرُ

أصْبَحَ لا يَمْلِك تقديمَ ما … يَرْجو ولا تأخيرَ ما يَحْذَرُ

وأصْبحَ الأمْرُ إلى غيرِه … في كلِّ ما يُقْضَى وما يُقْدَرُ

إذا كان شُكري نعمةَ اللهِ نِعمةً … عليَّ له في مِثْلِها يَجِبُ الشُكرُ

فكيف بُلوغُ الشّكرِ إلا بفَضْلِه … وإن طالَتِ الأيّامُ واتّصَلَ العُمْرُ

وقال شاعر:

لأشكرَنَّكَ مَعْروفاً هَمَمْتَ به … إنَّ اهْتِمامَكَ بالمَعْروفِ مَعروفُ

ولا أَذُمُّكَ إنْ لَمْ يُمْضِهِ قَدَرٌ … فالشَّيءُ بالقَدَرِ المَحْتومِ مَصْروفُ

‌‌حثهم على الشكر ولو لِمَنْ ليس على دينهم

قال رجلٌ لسعيد بن جبير: المجوسيُّ يُوليني خيراً فأشكرُه، ويسلِّمُ عليَّ فأردُّ عليه؟ فقال سعيد: سألت ابنَ عبّاسٍ عن نحو هذا، فقال لي: لو قال لي فرعونُ خيراً لردَدْتُ عليه. . . وسلّم نصرانيٌّ على الشَّعبيِّ، فقال الشَّعبيُّ: وعليك السلامُ ورحمةُ الله، فقال له رجلٌ: سبحانَ الله، تقول لهذا النصرانيِّ ورحمةُ الله! فقال الشَّعبيُّ: أليس في رحمةِ اللهِ يعيش؟ قال: بلى، قال: فما وجهُ الإنكارِ عليّ عافاك اللهُ ورَحِمَنا وإيّاك برحمته؟ 

Thursday, August 31, 2023

من كتاب الزخائر والعبقريات 2 تأليف عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري

ومن أحسن ما قيل في الإشفاق على الأولاد: قول حِطَّانَ بنِ المُعلَّى - وهو شاعر إسلامي، وأبياته هذه في الحماسة 
 أنْزَلني الدَّهْرُ على حُكْمِهِ … مِنَ شامِخٍ عالٍ إلى خَفْضِ 
وغالَني الدَّهْرُ بِوَفْرِ الغِنى … فليْسَ لي مالٌ سِوَى عِرْضِي 
أبْكانيَ الدَّهْرُ ويا رُبَّما … أضْحَكَني الدَّهْرُ بما يُرْضِي
 لولا بُنَيَّاتٌ كزُغْبِ القَطَا … رُدِدْنَ من بَعْضٍ إلى بعضِ
 لَكانَ لي مُضْطَرَبٌ واسِعٌ … في الأرْضِ ذاتِ الطُّولِ والعَرضِ 
وإنّما أوْلادُنا بَيْنَنا … أَكْبادُنا تَمْشي على الأرْضِ
 لو هَبَّتِ الرِّيحُ على بَعْضِهمْ … لامْتنعت عَيْني من الغُمْضِ
 أنزلني الدهر على حكمه: أنزله من العزةِ إلى الذلَّة يحكم فيه بما شاء، ومن شامخ: من جبل شاهق طويل في السماء، وإلى خفض  إلى مطمئن من الأرض، وهذا تمثيل. وغالني الدهر: أخذه غيلة من حيث لم يدر، وبوفر الغنى: يريد: في كثرة ماله، وقوله: فليس لي مال سوى عرضي يريد: لم يبقِ له الدهر شيئاً إلا أتى عليه سوى عرضه فلم ينتقصه. والعرض: قال ابن الأثير: موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو سلفه أو من يلزمه أمره، وقيل: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه ويحامي عنه أن يُنتقص ويُثلب، وقال أبو العباس ثعلب: إذا ذكر عرض فلان فمعناه أموره التي يرتفع أو يسقط من جهتها بحمد أو بذم، فيجوز أن تكون أموراً يوصف هو بها دون أسلافه ويجوز أن تذكر أسلافه لتلحقه النقيصة بعيبهم 
وقول الشاعر: وأُدْرِكُ مَيسورَ الغِنَى ومعِي عِرضي أي أفعالي الجميلة وقوله: بما يرضي: أي أضحكني أحياناً بما يرضيني. وقوله: كزغب القطا: واحدتها زغباء والذكر أزغب والمصدر الزغب، وهو أوّل ما يبدو من ريش الفرخ، وكذا من شعر الصبي، وقوله: رُدِدن من بعض إلى بعض: تصوير لهيئة تداخل الأفراخ وانضمام بعضهن إلى بعض أول نشأتهن، يصف بناتِه بأنهن ضعاف لا يستطعن القيام بشؤونهن. ومضطرب: أي اضطراب، أي تحرك. وأكبادنا: تمثيل لمعنى الشفقة عليهن، وقد بينها بقوله: لو هبت الريح. . . البيت. . . والغمض بضم الغين: النوم 
وقال شاعر جاهلي يمتدح ابنه لبره به، وهي من أبيات الحماسة  
رأيتُ رِبَاطاً حينَ تَمَّ شَبَابُهُ … وولّى شبابي ليسَ في بِرِّه عَتْبُ
 إذا كان أولادُ الرجالِ حَزَازَةً … فأنتَ الحلالُ الحُلْوُ والبارِدُ العذْبُ 
لنا جانِبٌ منه دَمِيثٌ وجانبٌ … إذا رَامَهُ الأعداءُ مُمْتَنِعٌ 
صَعْبُ وتأخُذُهُ عند المكارم هِزّةٌ … كما اهْتَزَّ تحْتَ البارِحِ الغُصُنُ الرَّطْبُ
 قوله ليسَ في بِرِّه عَتْبُ: يريد ليس في بره لَومٌ ولا سخط، وقوله: إذا كان أولاد الرجال حزازة، فالحزازة: وجع في القلب من غيظٍ ونحوه والجمع حزازات، وتروى: إذا كان أولاد الرجال مرارةً، وهي الأنسبُ بقوله فأنت الحلال الحُلو، يكنى به عن الرجل الذي لا ريبة فيه، على المَثَل بالحُلو الحلال مما يُذاق، يصف طيب أخلاقه، وقوله: دميث: أي سهل ليّن، والبارح: الريح تهب من الشمال في الصيف خاصة 
وقال الفضل بن العباس ابن عتبة بن أبي لهب  
مَهْلاً بَنْي عمِّنا مهْلاً موَالينا ... لا تنْبِشُوا بَيْنَنَا ما كان مَدْفونا 
لا تَطْمَعُوا أَنْ تُهِينُونا ونُكْرِمَكُمْ ... وَأَنْ نَكُفَّ الأذى عنكم وتُؤْذُونا
 مهْلاً بني عمِّنا مِنْ نَحْتِ أَثْلَتِنا ... سِيرُوا رُوَيْداً كما كُنْتُمْ تسيرونا 
اللهُ يعْلَمُ أَنَّا لا نُحِبُّكُمُ ... ولا نَلومُكُمُ إنْ لم تُحبّونا
 كلٌّ له نِيَّةٌ في بُغْضِ صاحبِه ... بنعمةِ اللهِ نَقْليكمْ وتَقْلونا مهلاً
  يريد: رفقاً وسكوناً لا تعجلوا، ويريد ببني عمه: بني أمية، وقد كان في صدورهم أحقاد، وقوله لا تنبشوا: يريد لا تستخرجوا ما كان بيننا من العداوة مدفوناً في الصدور، وقوله: من نحت أثلتنا، فالأثلة: واحد الأثل وهو من العضاه شجر طوال مستقيم الخشب ومنه تصنع الأقداح والجفان ونحتها: قشرها أو نشرها، يريد: مهلاً بني عمنا في إظهار المثالب والمعايب التي تلصقونها بنا، وقوله: كل له نية الخ يريد: إنا وإياكم لعلى طرفي نقيض نحن نبغضكم لاغتصابكم الملك واستيلائكم على أموال المسلمين وأنتم تبغضوننا على قرابتنا من النبي صلوات الله عليه، وقلاه يقليه قلى: أبغضه، وقد حذف نون الرفع من تقلونا ضرورة.
 وقد ورد في علاج العداء الذي يحدث بين الأقارب: وهو علاج مسكن. . . ولكنه لا علاج غيره - قول أكثم بن صيفي حكيم العرب  تباعدوا في الديار تقاربوا في المودة. . 
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: مُرْ ذوي القرابات أن يتزاوروا ولا يتجاوروا 
وقال بعضهم: البنات حسناتٌ. والبنون نعمٌ، والحسناتُ مُثابٌ عليها، والنعم مسؤول عنها. 
وتعرض رجل لهشام بن عبد الملك وادّعى أنه أخوه، فسأله: من أين ذلك؟ قال: من آدم! فأمر بأن يُعطى درهماً، فقال: لا يعطي مثلك درهماً، فقال هشام: لو قسمت ما في بيت المال على القرابة التي ادّعيتها لم ينلك إلا دون ذلك.
 يقول البحتري  
وَأشَقُّ الأفْعالِ أَنْ تَهَبَ الأن ... فُسُ ما أُغْلِقتْ عليهِ الأكُفُّ 
ويقول أبو يعقوب الخُريميّ:
 ودُونَ النَّدى في كُلِّ قَلْبٍ ثنِيَّةٌ ... بهَا مَصْعَدٌ حَزْنٌ ومُنْحدَرٌ سَهْلُ 
 ويقول أبو العتاهية 
 اِطْرَحْ بطَرْفِكَ حيْثُ شِئْ ... تَ فلن تَرَى إلاَّ بخيلا ومَنْ يَظَّنُّ نَثْرَ الحَبِّ جُوداً 
... ويَنْصِبُ تحْتَ ما نَثَرَ الشِّباكا 
 يقول محمود الوراق 
 مَنْ ظَنَّ باللهِ خيراً جاد مُبْتَدِئاً ... والبُخْلُ مِنْ سُوءِ ظَنِّ المَرْءِ باللهِ

قال الحسن والحسين رضوان الله عليهما لعبد الله بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال! قال: بأبي أنتما، إن الله عوّدني أن يفضِّل 
عليَّ، وعوّدته أن أفضِّلَ على عباده، فأخاف أن أقطع العادة، فيقطع عنِّي

مرّ يزيدُ بن المُهلّب بأعرابيّةٍ، في خروجه من سجن عمرَ بنِ عبد العزيز، يريد البصرة، فقَرَتْه عنزاً فقَبِلها، وقال لابنه معاوية: ما معك من النفقة؟ فقال: ثمانمائة دينار، قال فادفعها إليها، فقال له ابنه: إنك تريد الرجالَ، ولا يكون الرجالُ إلا بالمال، وهذه يرضيها اليسير، وهي بعدُ لا تعرفك، فقال له: إن كانت ترضى باليسير فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني، فأنا أعرف نفسي، ادْفَعْها إليها 

جُهْدُ المُقِلِّ إذا أعطاكَ نائلَهُ ... ومُكْثرٌ من غِنًى سِيَّانِ في الجُودِ
فهو كما قال الشاعر 
ولَمْ يكُ أكْثرَ الفِتيانِ مالاً ... ولكن كانَ أرْحَبَهمْ ذِراعا
وأنْفِقْ إذا أنفقتَ إنْ كنْتَ مُوسِراً ... وأَنفِقْ على ما خيَّلَت حينَ تُعْسِرُ
فلا الجودُ يُفْني المالَ والجَدُّ مقْبلٌ ... ولا البخلُ يُبقي المالَ والجَدُّ مُدْبرُ
إنَّ الكَريمَ ليُخْفِي عَنْكَ عُسْرَتَهُ ... حَتَّى تراهُ غَنيِّاً وهوَ مَجْهُودُ
إذا تكرَّمْتَ أَنْ تُعْطي القليلَ ولمْ ... تَقْدِرْ على سَعةٍ لمْ يَظْهرِ الجُودُ
ولِلْبَخيلِ على أمْوالِه عِلَلٌ ... زُرْقُ العُيونِ علَيْها أَوْجُهٌ سُودُ
أَوْرِقْ بخَيْرٍ تُرَجَّى لِلنَّوالِ فَما ... تُرْجى الثِّمارُ إذا لم يُورِقِِ العودُ
ومن أجمل ما قيل في الجود قول حاتم طيء:
أماوِيَّ ما يُغْني الثَّرَاءُ عن الفَتَى ... إذا حَشْرَجَتْ يوماً وضاقَ بها الصَّدْرُ
أماوِيَّ إنْ يُصْبِحْ صَدَايَ بِقَفْرَةٍ ... مِنَ الأرْضِ لا ماءٌ لَدَيَّ ولا خَمْرُ
تَرَيْ أَنَّ ما أَبْقَيْتُ لمْ أَكُ رَبَّهُ ... وأنَّ يَدِي ممَّا بَخِلْتُ بِهِ صِفْرُ
أماوِيَّ إنَّ المَالَ غادٍ ورَائِحٌ ... ويَبْقَى مِنَ المَالِ الأحاديثُ والذِّكرُ
غنِينَا زَماناً بالتَّصَعْلُكِ والغِنى ... وكُلاًّ سَقاناهُ بكأسَيْهمَا الدَّهْرُ
فما زادنا بَأْواً على ذي قَرابةٍ ... غِنانا ولا أزْرَى بأحسابنا الفقْرُ

ألست معي في أن على هذه الأبيات مسحةً من الجمال وأثراً بيّناً من الصدق وأن لها لوطةً من ثمّ بالقلب! أليس حاتمٌ يقول: الحق
 أقول: إنه لا ينبغي لك يا ماوية أن تلوميني على إنفاق مالي في سبيل البرِّ والإلطاف، والتخرق في النوال وقرى الأضياف، أما تعلمين أنّ مال المرء لا يغني عنه شيئاً إذا ما الموت رماه بسهامه وغادر هذه الحياة، أما تعلمين أنَّ المرء متى نُبِذ جسدُه بالعراء وأودع حفرةً موحشةً مقفرةً ليس معه شيء مما كان يحتازه في هذه الدنيا من مال، بدا لك أنّ المال الذي تركته وبخلت به على مستحقيه أصبح مُلكاً لغيري وأصبحت أنا خالي الوِفاضِ بادي الإنفاض لا أملك من هذا المال شَرْوى نقير! أليس الأخلق بي لذلك أن أنفقه وأتسخّى به على أهليه، فأنتفع بعد موتي - إذا أنا فعلت - بالذكر في الناس والحديث الحسن! وأيّةُ قيمةٍ للمال يا ماويّة، ذلك الذي يجيء ويذهب، ويغدو ويروح! أليس الأخلق بالعاقل الثاقب النظر أن يفيد منه ما هو أبقى على الزمن الباقي من الزمن - أن يفيد منه الذكرَ من طريق إنفاقه، والجود به في وجوه استحقاقه! لقد عشنا يا زوجتي حيناً من الدهر أغنياء كما عشنا حيناً فقراء، وكلاً سقاناه الدهر بكأسيهما، 
فما أزرى الدهر بأحسابنا، ولا أصغى إناءَ أعراضنا، ولا أسف بأخلاقنا، كما هو شأنه مع ضعفاء النفوس، وكذلك إذ كنا أغنياء، ما أبطرنا الغنى، وما أطغانا، على ذوي قُربانا، لأنّا نعلم علماً ليس بالظن أن المال عرض زائل، أما الجوهر، أما الذكر، أمّا الشرف، أما الخُلق، فكل أولئك هو الذي عليه المعوَّل، وإنه لذخيرة لا تنفد، وهي حسب العاقل الذي راضَ نفسَه على السكون إلى الحقائق، ولم يخلد إلى أمِّ دَفْرٍ باطلِ الأباطيل