RAMADAN

Monday, August 26, 2024

مقتطفات من كتاب التحرير والتنوير لأبن عاشور 3

 

سورة البقرة

عَنِ «الْمُسْتَدْرك» أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهَا سَنَامُ الْقُرْآنِ»

وَسَنَامُ كُلِّ شَيْءٍ أَعْلَاهُ وَهَذَا لَيْسَ عَلَمًا لَهَا وَلَكِنَّهُ وَصْفُ تَشْرِيفٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ إِنَّهَا فُسْطَاطُ الْقُرْآنِ وَالْفُسْطَاطُ مَا يُحِيطُ بِالْمَكَانِ لِإِحَاطَتِهَا بِأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ.


وَلَا شَكَّ أَنَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِيهَا فَرْضُ الصِّيَامِ، وَالصِّيَامُ فُرِضَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ، فُرِضَ فِيهَا صَوْمُ عَاشُورَاءَ ثُمَّ فُرِضَ صِيَامُ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ سَبْعَ رَمَضَانَاتٍ أَوَّلُهَا رَمَضَانُ مِنَ الْعَامِ الثَّانِي مِنَ الْهِجْرَةِ، فَتَكُونُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ نَزَلَتْ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ فِي أَوَاخِرِهَا أَوْ فِي الثَّانِيَةِ.

=

إِلَّا أَنَّ اشْتِمَالَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى أَحْكَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَعَلَى أَحْكَامِ الْقِتَالِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ والبلد الْحَرَام ينبىء بِأَنَّهَا اسْتَمَرَّ نُزُولُهَا إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ وَسَنَةِ سِتٍّ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ عِنْدَ آيَةِ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [الْبَقَرَة: 196]

=

وَقَدْ يَكُونُ مُمْتَدًّا إِلَى مَا بَعْدَ سَنَةِ ثَمَانٍ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ- الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ- لِمَنِ اتَّقى [الْبَقَرَة: 197- 203] . عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [الْبَقَرَة: 281] الْآيَةَ هُوَ آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ أَنَّهُ قَدْ يَسْتَمِرُّ نُزُولُ السُّورَةِ فَتَنْزِلُ فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ نُزُولِهَا سُوَرٌ أُخْرَى.

وَقَدْ عُدَّتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ السَّابِعَةَ وَالثَّمَانِينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ وَقَبْلَ آلِ عِمْرَانَ.

=

وَفِي «الْمُوَطَّأِ» قَالَ مَالِكٌ إِنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مَكَثَ عَلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثَمَانِيَ سِنِينَ يَتَعَلَّمُهَا

=

وَنَظَّرُوهُ بِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَتَكَلَّمُ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ بَدَلًا مِنْ كَلِمَاتٍ تَتَأَلَّفُ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ نَظْمًا وَنَثْرًا، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ زُهَيْرٍ:

بِالْخَيْرِ خَيِّرَاتٌ وَإِنْ شَرٌّ فَا ... وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَا

أَرَادَ وَإِنْ شَرٌّ فَشَرٍّ وَأَرَادَ إِلَّا أَنْ تَشَا، فَأَتَى بِحَرْفٍ مِنْ كُلِّ جُمْلَةٍ. وَقَالَ الْآخَرُ (قُرْطُبِيٌّ) :

نَادَاهُمْ أَلَا الْجِمُوا أَلَا تَا ... قَالُوا جَمِيعًا كُلُّهُمْ أَلَا فَا

 

أَرَادَ بِالْحَرْفِ الْأَوَّلِ أَلَا تَرْكَبُونَ، وَبِالثَّانِي أَلَا فَارْكَبُوا. وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَامِلُ عُثْمَانَ يُخَاطِبُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ:

قُلْتُ لَهَا قِفِي لَنَا قَالَتْ قَافْ ... لَا تَحْسِبَنِّي قَدْ نَسِيتُ الْإِيجَافْ (1)

أَرَادَ قَالَتْ وَقَفْتُ.

وَلَسْتُ أُرِيدُ بِذَلِكَ تَصْحِيحَ حَمْلِ حُرُوفِ فَوَاتِحِ السُّوَرِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ تَخْرِيجُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ مَعَهَا مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ مَعَ التَّوْرِيَةِ بِجَعْلِ مَرَّ مِنَ الْمُرُورِ.

=

وَالْعِرَاقُ مَهْدُ الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ وَقَدْ أَثْبَتَ التَّارِيخُ أَنَّ ضَخْمَ بْنَ إِرَمَ أَوَّلُ مَنْ عَلَّمَ الْعَرَبَ الْكِتَابَةَ وَوَضَعَ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ التِّسْعَةَ وَالْعِشْرِينَ

=

خلص في تفسير الحروف التي يبتدأ بها بعض الصور بعد عرض أحدى وعشرون قولاً إلى:

الْأَرْجَحَ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ ثَلَاثَةٌ: وَهِيَ كَوْنُ تِلْكَ الْحُرُوفِ لِتَبْكِيتِ الْمُعَانِدِينَ وَتَسْجِيلًا لِعَجْزِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ، أَوْ كَوْنُهَا أَسْمَاءً لِلسُّوَرِ الْوَاقِعَةِ هِيَ فِيهَا، أَوْ كَوْنُهَا أَقْسَامًا أَقْسَمَ بِهَا لِتَشْرِيفِ قَدْرِ الْكِتَابَةِ وَتَنْبِيهِ الْعَرَبِ الْأُمِّيِّينَ إِلَى فَوَائِدِ الْكِتَابَةِ لِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ حَالَةِ الْأُمِّيَّةِ وَأَرْجَحُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ هُوَ أَوَّلُهَا

=

كَيْفِيَّةُ النُّطْقِ أَنْ يُنْطَقَ بِهَا مَوْقُوفَةً دُونَ عَلَامَاتِ إِعْرَابٍ عَلَى حُكْمِ الْأَسْمَاءِ الْمَسْرُودَةِ إِذْ لَمْ تَكُنْ مَعْمُولَةً لِعَوَامِلَ فَحَالُهَا كَحَالِ الْأَعْدَادِ الْمَسْرُودَةِ حِينَ تَقُولُ ثَلَاثَهْ أَرْبَعَهْ خَمْسَهْ.

=

قَالَ بَشَّارٌ:

أَخُوكَ الَّذِي إِنْ رِبْتَهُ قَالَ إِنَّمَا ... أَرَبْتَ وَإِنْ عَاتَبْتَهُ لَانَ جَانِبُهُ

أَي إِن فعلت مَعَه مَا يُوجب شكه فِي مودتك رَاجع نَفسه. وَقَالَ: إِنَّمَا قربني من الشَّك وَلم أَشك فِيهِ. أَي التمس لَك الْعذر.

=

قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: الْقَوْلُ عِنْدِي أَنَّ الْكُفْرَ بِاللَّهِ هُوَ الْجَهْلُ بِوُجُودِهِ وَالْإِيمَانَ بِاللَّهِ هُوَ الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ فَالْكُفْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ أَحَدُهَا الْجَهْلُ بِاللَّهِ تَعَالَى، الثَّانِي أَنْ يَأْتِيَ بِفِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ أَجْمَعَ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ كَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ، الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ لَهُ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْعِلْمُ بِاللَّهِ تَعَالَى.

وَنَقَلَ ابْنُ رَاشِدٍ فِي «الْفَائِقِ» عَنِ الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْكُفْرَ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ. قَالَ الْقُرَافِيُّ فِي الْفِرَقِ 241 أَصْلُ الْكُفْرِ هُوَ انْتِهَاكٌ خَاصٌّ لِحُرْمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَيَكُونُ بِالْجَهْلِ بِاللَّهِ وَبِصِفَاتِهِ أَوْ بِالْجُرْأَةِ عَلَيْهِ وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْمَجَالُ الصَّعْبُ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَعَاصِي جُرْأَةٌ عَلَى اللَّهِ

 

قاعدة، الكفر هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية إما بالجهل بوجوده أو صفاته أو بفعل كرمي المصحف في القاذورات والسجود للصنم أو التردد للكنائس بزي النصارى في أعيادهم أو جحد ما علم من الدين بالضرورة فقولنا خاص احتراز من المعاصي فإنها انتهاك وليست كفرا وألحق الشيخ أبو الحسن الأشعري بذلك إرادة الكفر كبناء الكنائس ليكفر فيها أو قتل نبي مع اعتقاد صحة رسالته ليميت شريعته ومنه تأخير إسلام من أتى يسلم ولا يندرج في ذلك الدعاء بسوء الخاتمة على العدو وفصل ولم أنسخ التفصيل!!!

 

 

مِنَ الْكَرَمِ وَالْحِلْمِ قَالَ الْفَرَزْدَقُ:

اسْتَمْطَرُوا مِنْ قُرَيْشٍ كُلَّ مُنْخَدِعٍ … إِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا خَادَعْتَهُ انخدعا

 

قِيلَ: مَنْ لَمْ يَتَحَلَّمْ فِي الصِّغَرِ لَا يَتَحَلَّمْ فِي الْكِبَرِ، وَقَالَ النَّابِغَةُ يَهْجُو عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ:

فَإِنَّكَ سَوْفَ تَحْلُمُ أَوْ تَنَاهَى … إِذَا مَا شِبْتَ أَوْ شَابَ الْغُرَابُ


No comments: