شرح
الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية
المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عبد الباقي بن يوسف بن
أحمد بن شهاب الدين بن محمد الزرقاني المالكي (ت
١١٢٢هـ)
"بسم
الله الرحمن الرحيم"
الحمد لله الذي جعلنا خير أمة أخرجت للناس، ورفع منابر
تشريفنا على منابر صفحات الدهور ثابتة الأساس، ووضع عنا الإصر والأغلال، ومنعنا
الاجتماع على الضلال، وقدمنا تقديم البسملة في القرطاس، فنحن الآخرون السابقون
تبجيلًا وتكريمًا لمن أرسله فينا رؤوفًا رحيمًا، فأقام دعائم الدين بعد طول تناس؛
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، تعالى عما يقول الظالمون الأرجاس،
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده وسوله، وحبيبه وخليله، الأمين المأمون الطيب الأنفاس،
ألا وهو أجل من أن يحيط به وصف، وأشرف من أن يضم جواهره نظم أو وصف، زكي المنابت،
طيب الأغراس، أضاءت قبل كونه وإرهاصاته المقباس، وأزهرت في حمله وولادته ورضاعه
زهراءي، اقتبس منها النبراس، وأشرقت أعلام نبوته، ولمعت لوامع براهين رسالته،
فشيدت منار الهدى بعدما كان في إبلاس، وبهر بالآيات البينات، فشق له البدر في دجى
الأغلاس، وغلب بمعجزات بدروها في التمام، وجواهرها تروق في الترصيع والانتظام،
ورياضها تتأرج بنسمات سماته، وتنشق عن نور زهر شمائله، ونور زهر صفاته التي كل عن
إحصاء راموزها المقياس؛ صلى الله وسلم عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين،
وعلى آله وصحابته وأزواجه وذريته الطيبين الطاهرين الأكياس، الناهضين بأعباء
المناقب، في علياء المناصب، البالغين في نصر الدين، النجوم الثواقب، الهادين من
الكفر الجبال الرواس، حتى نسفوها نسفًا، وحكموا بالعدل وأقاموا القسطاس
أما بعد: فهذا الكتاب لم يطلبه مني طالب، ولا رغب إلي
من تصنيفه راغب، وإنما تطلبت نفسي فيه مزج المواهب، فأودعته نفائس بها يتنافس في
شرح السنة النبوية، وعرائس استجليتها من مخدرات خدور السيرة المحمدية، وجواهر
استخرجتها من قاموس الحكم المصطفوية، وزواهر اقتبستها من أرقعة السيرة الهاشمية،
وزهور اجتثيتها من جنات وجنات الروضة المدنية، يبهر من عقد نظامها الناظر، وينادي
من أي هذا القاصر، فيجيبه حال اللسان الوهاب، قوي قادر، أما العيوب وإن كثرت، فما
لا سبيل إلى السلامة منها لغير المعصوم، وقد قال:
من ذا الذي ما ساء قط … ومن له الحسنى فقط
وقد قال ابن عبدوس النيسابوري: لا أعلم في الدنيا
كتابًا سلم إلى مؤلفه ولم يتبعه من يليه، فكيف وفهمي فاتر، ونظري قاصر، ووجودي في
الزمان الآخر مع ما أقاسيه من تلاطم أمواج الهموم وأقلامه من ترادف جيوش الغموم،
لكني أنتظر الفرج من الحي القيوم، مستعيذًا به من حسود ظلوم، والله أسال العون على
إتمامه، والتوفيق من امتنانه وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أنشد أبو عمرو:
أيا سائلي تفسير ميت وميت … فدونك
قد فسرت إن كنت تعقلي
فمن كان ذا روح فذلك ميت …
وما الميت إلا من إلى القبر يحمل
قال صلى الله عليه وسلم:
"إن روح القدس نفث" بفاء مثلثة "في روعي" أي: ألقى الوحي في
خلدي وبالي أو في نفسي أو قلبي أو عقلي من غير أن أسمعه ولا أراه، ومفعول نفث
قوله: "لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها" الذي كتبه لها الملك وهي في بطن
أمها، فلا وجه للوله والكد والتعب والحرص فإنه سبحانه قسم الرزق وقدره لكل أحد
بحسب إرادته لا يتقدم ولا يتأخر، ولا يزيد ولا ينقص، بحسب علمه القديم الأزلي،
{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف: 32] فلا يعارض هذا ما ورد
الصبحة تمنع الرزق، والكذب ينقص الرزق، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه وغير
ذلك مما في معناه، أو أن الذي يمنعه وينقصه هو الحلال أو البركة فيه لا أصل الرزق،
وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني وأبي نعيم: "إن نفسا لن تمون حتى تستكمل
أجلها وتستوعب رزقها".
وفي حديث جابر عند ابن ماجه:
"أيها النس، اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي
رزقها، وإن أبطأ عنها؛ فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما
حرم". وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الرزق ليطلب أحدكم كما يطلبه أجله".
رواه البيهقي وغيره وقال عليه السلام: "والذي بعثني بالحق إن الرزق ليطلب
أحدكم كما يطلبه أجله". رواه العسكري. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا
تستبطئوا الرزق فإنه لم يكن عبد يموت حتى يبلغ آخر الرزق، فأجملوا في الطلب".
رواه البيهقي وغيره.
"فاتقوا
الله" أي: ثقوا بضمانه لكنه أمرنا تعبدًا بطلبه من حله، فقال: "وأجملوا
في الطلب" بأن تطلبوه بالطرق الجميلة المحللة بلا كد ولا حرص ولا تهافت على
الحرام والشبهات، أو غير منكبين عليه مشتغلين عن الخالق الرازق به، أو بأن تعينوا
وقتًا ولا قدرًا؛ لأنه تحكم على الله أو ما فيه رضا الله لا حظوظ الدنيا، أو لا
تستعجلوا الإجابة "الحديث"،
بقيته: "ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى
لا ينال ما عنده إلا بطاعته". "رواه" بتمامه "ابن أبي
الدنيا" عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس الأموي في القناعة، وصححه الحاكم
حمدت الله حين هدى فؤادي …
إلى الإسلام والدين الحنيف
لدين جاء من رب عزيز … خبير
بالعباد بهم لطيف
إذا تليت رسائله علينا … تحدر
دمع ذي اللب الحصيف
رسائل جاء أحمد من هداها …
بآيات مبينة الحروف
وأحمد مصطفى فينا مطاع … فلا
تغشوه بالقول العنيف
فلا والله نسلمه لقوم … ولما
نقض فيهم بالسيوف
ونترك منهم قتلى بقاع … عليها
الطير كالورد العكوف
وقد خبرت ما صنعت ثقيف … به
فجزى القبائل من ثقيف
إله الناس شر جزاء قوم … ولا
أسقاهمو صوب الخريف
قال الزهري: في علم المغازي
خير الدنيا والآخرة. وقال زين العابدين علي بن الحسين بن علي: كنا نعلم مغازي رسول
الله صلى الله عليه وسلم كما نعلم السور من القرآن، رواهما الخطيب وابن عساكر. وعن
إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا، ويقول: يا
بني هذه شرف آبائكم فلا تضيعوا ذكرها
في الجبن عار وفي الأقدام
مكرمة … والمرء بالجبن لا ينجو من القدر
فخرج النبى- صلى الله عليه
وسلم- فتبعته ابنة حمزة تنادى: يا عم يا عم، فتناولها على فأخذ بيدها وقال لفاطمة
دونك ابنة عمك، فحملتها، فاختصم فيها على وزيد وجعفر، قال على: أنا أخذتها وهى بنت
عمى. وقال جعفر: ابنة عمى وخالتها تحتى، وقال زيد ابنة أخى فقضى بها النبى- صلى
الله عليه وسلم- لخالتها وقال:«الخالة بمنزلة الأم» الحديث.
وإنما أقرهم النبى- صلى الله
عليه وسلم- على أخذها مع اشتراط المشركين ألايخرج بأحد من أهلها أراد الخروج،
لأنهم لم يطلبوها
وقوله: «الخالة بمنزلة الأم»
أى فى هذا الحكم الخاص، لأنها تقرب منها فى الحنو والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح
الولد. ويؤخذ منه أن الخالة فى الحضانة مقدمة على العمة، لأن صفية بنت عبد المطلب
كانت موجودة حينئذ، وإذا قدمت على العمة مع كونها أقرب العصبات من النساء، فهى
مقدمة على غيرها. ويؤخذ منها تقديم أقارب الأم على أقارب الأب انتهى
وعن أحمد رواية أن العمة
مقدمة في الحضانة على الخالة، وأجيب له عن هذه القصة بأن العمة لم تطلب فإن قيل:
والخالة لم تطلب. قيل: قد طلب لها زوجها، فكما أن لقريب المحضون أن يمنع الحاضنة
إذا تزوجت فللزوج أيضا، أن يمنعها من أخذه فإذا وقع الرضا سقط الحرج
لكن الحق في هذه الصورة عند
مالك كان للعمة لأن من شرط عدم سقوط الحضانة بالتزويج أن لا يكون هناك حاضنة خلية
من الزوج، عن هذه القصة بأنها لما لم تطلب، لم يكلفها النبي صلى الله عليه وسلم
ذلك خصوصا وقد علمت بقدومها إذ الاختصام كان بالمدينة كما مر فلا يقال: لو كان
الحق لها لأرسل لها، وإن لم تطلب