(في حَدَثٍ أصغر) بعد أن
بيَّن -رحمه الله- ما الذي يُمسح عليه، ووقت المسح، شرع في بيان محل المسح.
فيختص
المسح على الخفين وعلى العمامة وعلى الخمار بالحَدَث الأصغر دون الأكبر، فلا يجوز
للإنسان أن يمسح على خفيه إذا اغتسل من الجنابة، بل يجب عليه نزع الخفين وغسل
القدمين، والأصل في هذا ما ثبت في الحديث الصحيح وهو حديث صفوان بن عسال المرادي
قال رضي الله عنه وأرضاه: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ننزع خفافنا من
بولٍِ أو نومٍ أو غائطٍ لكن من جنابة) فقوله: (من بولٍ) أي: بسبب بولٍ (أو نومٍ)
أي: بسبب نومٍ (أو غائطٍ) أي: بسبب غائط، فكل هذه لا ننزع منها، ثم قال: (لكن من
جنابة) أي: ننزع من الجنابة، فدل على أن الجنب باحتلامٍ أو إنزالٍ أو جماعٍ عليه
أن ينزع خفيه وكذلك النفساء والحائض من جماع ونحوه، فإنه يلزمها أن تغتسل ولا تمسح
على الخفين
أحكام اختلاف
ابتداء المسح وانتهائه
قال رحمه الله:
[ومن مسح في سفر ثم أقام أو عَكَسَ، أو شَكَّ في ابتدائه، فمَسْح مقيم] هذه
المسألة مفرعةٌ على الأصل، فقد عرفنا أن المقيم يمسح يوماً وليلةً على الخف، ويمسح
المسافر ثلاثة أيام بلياليهن على الخف، فلو فرضنا أنك كنت مسافراً فمسحت اليوم
الأول، ثم رجعت إلى البلد في اليوم الثاني، فأصبحت مقيماً في اليوم الثاني، فهل
نقول: العبرة بالابتداء فتتم مسحك مسح مسافر، أو العبرة بالانتهاء فتقطع مسحك لأنك
أتممت مسح المقيم؟ والعكس، فلو كان مقيماً فلبس الخف -مثلاً- الساعة الثانية ظهراً
وهو على طهارة، ثم انتقض وضوءه في الساعة الثالثة ظهراً، ومسح في الساعة الرابعة،
ثم سافر في المغرب، فإنه في الأصل مقيم، وطرأ عليه السفر، فهل نقول: العبرة
بالابتداء أو العبرة بالانتهاء -أي: ما انتهى إليه حاله-؟ فللعلماء في هذه المسألة
أوجه: منهم من قال: في كل هذه الصور يُرَد إلى اليقين، والقاعدة: أن (الشك في
الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل)، فالمسح رخصة، فنشُك إذا كان مسافراً وأقام: هل يتم
مسح مسافر؟ فنرده إلى اليقين وهو اليوم والليلة، ولما كان مقيماً ثم سافر نشك: هل
يطرأ عليه التوسع أو لا يطرأ؟ أو نبقيه على اليقين، فنرده إلى اليقين وهو اليوم
والليلة، وهذا اختيار الشافعية والحنابلة.
وقال بعض العلماء:
إنه يعتبر المآل، فيمسح مسح المسافر، ولو طرأت عليه الإقامة، وهذا مذهب الإمام أبي
حنيفة رحمة الله عليه.
والأقوى
والأحوط: أنه يتم مسح مقيم في جميع الصور، للقاعدة: أن (الشك في الرخص يوجب الرجوع
إلى الأصل) خاصةً وأنه في عبادة الوضوء التي ينبني عليها الحكم بصحة صلاته، وهذا
هو أعدل الأقوال إن شاء الله تعالى.
كيفية المسح على
الجرموق
قال رحمه الله:
[فإن لَبِسَ خفاً على خفٍٍ قبل الحدث فالحكم للفوقاني] اختلف العلماء رحمهم الله
في مسألة المسح على خف فوق خف: فقال بعض العلماء: الرخصة تختص بالخف إذا باشر
القدم.
وقال بعضهم: يجوز
المسح على خف فوق خف، أي: لا يشترط أن يكون الخف قد وَلِي البشرة أو وَلِي القدم.
فدرج المصنف -رحمه
الله- على القول الثاني، والقول الأول أقوى، وذلك أن الرخَص يُقتصر فيها على صورة
ما أذن به الشرع، والذي ورد في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم: مسحه على خف
يلي محل الفرض، وعلى هذا: لا يقوى القول بالمسح على خف فوق خف؛ لأنه يلي ما حكمه
المسح، ولا يلي عضواً يختص الحكم بغسله.
وبناءً على القول
الذي اختاره المصنف رحمه الله: إن لبس خفاً فوق خف فإن الحكم يكون (للفوقاني) أي:
الأعلى منهما.
مقدار المسح على
الخف
قال رحمه الله:
[وظاهر قدمِ الخُفِّ]: للعلماء في المسح على الخُفين أقوال: فقالت طائفة من أهل
العلم: يُمسح أعلى الخف وأدناه، وفيه رواية في حديث المغيرة: (ومسح على أعلى خفه
وأسفله).
ومنهم من قال:
يَمسح الأعلى ولا يمسح الأدنى، وذلك لقوله: (ثم مسح على خفيه) وهذا يقتضي أنه
للأعلى، وأيد ذلك ما جاء عن علي رضي الله عنه أنه قال: (لو كان الدين بالرأي لكان
باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره؛ ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح
على ظاهر خفيه) فدل هذا على أنه لا يُمسَح الباطن، وهو الذي يلي الأرض، وقوله: (لو
كان الدين بالرأي -أي: بالاجتهاد- لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره) لأن
الإنسان إنما يطأ الأرض بباطن قدمه، فباطن الخف الذي يلي الأرض أحوج لِأَنْ
يُنَظَّف ويُمسح عليه من ظاهر الخف، فلما قال ذلك رضي الله عنه وأرضاه، دل على أن
باطن الخف لا يُمسح.
وقال بعضهم -وهي
الرواية الثالثة عن مالك -: أنه يُمسح باطن الخف ولا يُمسح ظاهره.
وهو قول ضعيف.
فهذه ثلاثة أوجه
لأهل العلم رحمة الله عليهم، أصحها وأقواها: ما اختاره المصنف -رحمة الله عليه- من
أنه يُمسح الظاهر ولا يجب مسح الباطن، بل لو قال قائل بعدم استحبابه لصح قوله على
ظاهر الحديث الذي ذكرنا، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام في السنن أنه: (مسح على
خفه، فخط الخطوط)
[مِن أصابعه إلى
ساقه، دون أسفله وعَقِبِه] (مِن) للابتداء.
(أصابعه) أي: أصابع
القدمين، (إلى ساقه) يُمِرُّ كفَّه مفرقة الأصابع، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه
وسلم.
وقال العلماء: يجعل
طرف الزند على رأس الأصابع، ثم يُمِرُّها، فإذا فعل ذلك فلا يلزمه مسح العقب، ولا
يلزمه كذلك مسح ما هو أسفل القدمين.
ما ينقض المسح
قال رحمه الله:
[ومتى ظهر بعض محل الفرض بعد الحدث أو تمت مدته، استأنف الطهارة] (ومتى ظهر بعض
محل الفرض): هذا يوجب انتقاض المسح، وذلك لعلة ذكرها أهل العلم -رحمة الله عليهم-
يستوي فيها أن يكون في الجبائر أو يكون في الخفين: وهي أنه إن ظهر جزءٌ من المستور
الذي مُسح عليه بدل غسله فقد توجه الخطاب في الشرع بغسله، ولا يستطيع أن يغسله؛
لأن شرط الموالاة قد فُقِد، فإن مُضِي المدة بين وضوئه الذي مَسَح فيه، وبين
انكشاف العضو، يقتضي بطلان شرط الموالاة، وإذا بطل شرط الموالاة تعذر أن يغسل،
فيُرجع إلى الأصل من وجوب الوضوء عليه.
توضيح
ذلك: لو فرضنا أن إنساناً توضأ ثم نزع من خفه ما بان به محل الفرض، فحينئذٍ نقول:
إنه في الأصل مطالَب بغسل رجليه، الذي هو محل الفرض، ورُخِّص له في المسح على
خفيه، بشرط أن يبقى على الصورة التي أذن الشرع بها من استتمام المدة والخف ساتر
لمحل الفرض، ويمسح المقيم يوماً وليلة، فإذا نزع أو انكشف جزء من محل الفرض فقد
توجه خطاب الشرع بغسل الموضع؛ لأنه فَقَدَ شرط المسح، فلما توجه الخطاب بالأصل
وهو: غسل الموضع، وقد مضت فترة لا يمكنه فيها أن يحقق شرط الموالاة، حُكِم بانتقاض
طهارته وبطلانها، وكل ذلك مبني على شرط الموالاة، ولذلك فالمذهب الذي نص عليه
المحققون: أنه لو انكشف جزءٌ من محل الفرض في الخفين، وكان قريب العهد بمسح الرأس،
كأن يكون مسح برأسه ثم مسح على خفيه، وبعد دقيقة أو دقيقتين كشف عن جزء من محل
الفرض أو خَلَعَ خُفَّه، فإنه يمكنه أن يغسل رجليه وتصح طهارته؛ لأن شرط الموالاة
لم يُفْقَد؛ لكن صورة المسألة التي يحكم فيها بالبطلان: إذا فُقِد شرط الموالاة،
كما نبه على ذلك الإمام الموفق -رحمة الله عليه- في المغني
No comments:
Post a Comment